الدكتور سعيد شوقى يكتب عن الاسكندرية فى رباعية لورانس داريل

د سعيد شوقى
الدكتور  سعيد شوقى يكتب عن  الاسكندرية فى رباعية لورانس داريل


 

     أقدم ورقتى البحثية عن رباعية الإسكندرية The Alexandria Quartet لورانس داريل Lawrence Durrell، بوصف الإسكندرية مكانا فاعلا في كل تقنيات الرباعية؛ جوستين Justine– بلتازارBalthazar - مونتوليف Mount olive – كليا Clea.  

     حين نفتح رباعية الإسكندرية لداريل، لا نبدأ في قراءة قصة فقط، بل ندخل إلى مدينة حيّة؛ مدينة تنبض بحواس متعددة: ضوء وشمس، بحر ومياه، رطوبة وأزقة، لغات وطبقات اجتماعية. الإسكندرية هنا ليست أبدا خلفية جامدة، بل هي (الرواية الخامسة) في الرباعية: مُسيّرة للسرد، صانعة للمصائر، مانحة للنصّ عمقه وتعدد وجوهه.

     في الجزء الأول، (جوستين)، تبدو الإسكندرية مدينة شبقية، شهوانية، غامضة، مليئة بالإغراء، متشابكة في أزقتها ومقاهيها. هذا المناخ الحسي ينعكس مباشرة على لغة الرواية: جمل شاعرية، وصف لونيّ، رطوبة، ضوء، ضجيج البحر، رائحة الشاي أو التبغ، تنوّع لغوي؛ العربية والفرنسية واليونانية تنسج معا نسيجا لغويا كوزموبوليتانيا. الحوار بين الشخصيات لا يكاد يكون صريحا: هو إيحاء، تلميح، همس ضمن ضوضاء المدينة. والعلاقات نفسها؛ كعلاقة دارلي بجوستين، أو بغيرها؛ تبدو كأنها تحرك ليس فقط برغبة بشرية، بل برغبة المدينة، بحاجتها للهوية والتعدد والانفلات. الحبكة في (جوستين) ليست خطية واضحة، بل متاهة؛ كل شارع، كل حانة، كل بيت قد يحمل سرا، قد يغير مسار حياة. الزمن داخلي، متداخل، يعتمد على تجربة العاشق وعلى وهج اللحظة. الشخصيات مشتبكة في المدينة كخيوط العنكبوت: لا بداية واضحة، لا نهاية محددة، بل تدفقات متشابكة من رغبات وخيانات وذكريات. لذا تكون فكرة الرواية حول الانغماس في الذات عبر المدينة، حول الرغبة، الهوس، الضياع.

     ثم في (بلتازار)، تتبدل الإسكندرية إلى مدينة أسرار، طبقات، ظلال، شنت خفية، ماض دفين. الرواية تعيد نفس الأحداث التي عرفناها في (جوستين) لكنها من منظور مختلف؛ منظور مُراجَع، ناقد، كاشف. هذا التبدل في المدينة؛ من مدينة رغبة إلى مدينة سِر؛ يصنع مضمونا تفكيكيا: كل ما ظنناه عُرفا قد يكون وهما، وكل حقيقة قد تكون مجرد وجه من وجوه المدينة. لغة السرد هنا أقل انفعالية ممن كانت في (جوستين)، لكنها أكثر عمقا، أكثر قراءة، أكثر تأملا: سرد تحليلي، متعدد الأصوات، سرد (مرايا) أو (طبقات) للمدينة. الحوار يكتسب بعدا فكريا: ليس همسا شبقيا، بل نقاشا، استجوابا، محاولةَ فهم ما بين السطور. الشخصيات تبدو ككائنات متنقلة في خرائط سرية؛ المدينة تمنحها هُويات متعددة، وتنزع عنها ثقتها بنفسها لكي تعاد قراءتُها من جديد. الحبكة تتحول إلى حبكة كشف وتفسير؛ رواية داخل رواية، لأن المدينة تمنح مناخا لهذا التشظي المعرفي، ولأن السرد يتطلب إعادة بناء.

     ثم مع (ماونت أوليف)، تتحول الإسكندرية إلى منصة صراع دولي ودبلوماسي. لم تعد المدينة فضاء شهوة أو سر، بل ساحة نفوذ، سفارات، موانئ، جوازات، قناصل، مصالح. هذا التغير في طبيعة المكان يغير من شكل الرواية: السرد يصبح أكثر موضوعية، السياسة تدخل إلى صميم الحبكة، والعلاقات الفردية تصبح ثانوية أمام العلاقات الجيوسياسية. اللغة تصبح عملية، رسمية، دبلوماسية، تتحدث بلغة القوى والدولة لا الحب والشهوة. الحوار بين الشخصيات يحمل إيحاءات دبلوماسية، مؤثرات مصالح، تحالفات سرية. الشخصيات أقل عاطفية، أكثر وظيفة؛ المدينة تمنحهم أدوارا في شبكة مصالح. الزمن يصبح تاريخيا، مرتبطا بأحداث خارجية، ليس بحواس الإنسان ومشاعره. وهذا الانتقال من المدينة كفضاء داخلي إلى مدينة كفضاء خارجي، من الذات إلى الدولة، يظهر كيف أن المكان يؤثر على مضمون الرواية، على شخصياتها، وعلى شكلها البنائي.

أخيرا، في (كِليا)، بعد الحرب، تأتي الإسكندرية مكسورة، متعبة، باهتة، تحمل ندوب الماضي، بحرا خفيفا، مباني متهدمة، ضوءا مختلفا. هنا تتحول المدينة إلى مكان تأمل وذاكرة، لا شهوة، لا سياسة، بل حنين، شوق، بحث عن الخلاص. اللغة تهدأ، تصبح تأملية، فلسفية، شاعرية لكن بهدوء أكثر، أقل لهفة. الوصف يمزج بين حنين البحر، ظل الظلال، رائحة الخراب، صخب الذكريات. الحوار بين الشخصيات أقل صخبا وأكثر عمقا، ليس استسلاما، بل محاولة فهم: ما الذي بقي؟ ماذا يعني البقاء؟  كيف يعاد بناء الذات بعد الدمار؟ الحبكة تتجه نحو الشفاء، نحو إعادة التوازن، نحو إعادة الاتصال بالمكان. الزمن يتبدل أيضا: من زمن الرغبة، زمن السياسة، زمن الحرب، إلى زمن الذاكرة، زمن الخسارة، زمن الانتظار وربما الأمل.

     إذا أردنا اختصار هذه الرحلة الأدبية عبر المدينة، يمكن القول: الإسكندرية في رباعية داريل تحوّل الرواية من تجربة حسية وغامضة في (جوستين) إلى كشف الأسرار وتحليل العلاقات في (بلتاذار)، ثم إلى الصراع السياسي والدبلوماسي في (ماونت أوليف)، وأخيرا إلى الحنين والتأمل في (كليا). في كل مرحلة، ومع تغير المدينة، تتغير الرواية نفسها: شكلها، لغتها، زمنها، رؤيتها للعالم، وحياة شخصياتها.

    أود أن أختتم بكلمة الراوي دارلي في إحدى فقرات النص للرواية الأولى (جوستين)، كمفتاح لفهم الرباعية: يقول:

 —the city is a maze of light and shadow, and each alley whispers a different truth.

- المدينة عبارة عن متاهة من الضوء والظل، وكل زقاق فيها يهمس بحقيقة مختلفة.

    لاحظوا كيف يتداخل الضوء والظل والمتاهة مع كل زقاق وحقائق متباينة، وهي: سمات عمرانية ومناخية للإسكندرية في فكرة الحقيقة المتعددة. هذه الجملة تؤكد أن المدينة ليست خلفية: هي: عامل إنتاج للحقائق.

     علينا إذن حين نقرأ الرباعية مجتمعة، أن ننظر إلى الإسكندرية ليس كخلفية، بل كفاعل مركزي، كراوية جذعية، كأرض تولد الأفكار، تصنع الحبكات، ترسم الشخصيات، تطيل الزمن أو تعصره، تهشم اللسان أو تصقله، تزرع فينا الحنين أو تدفعنا للمواجهة.

     بهذا الفهم، تصبح القراءة أكثر عمقا، وأكثر اتصالا بالمكان، وأكثر احتراما لصيرورة السرد. والإسكندرية تظل، حتى بعد الانتهاء من قراءة آخر صفحة فيها؛ مدينة حية في ذهن القارئ، مدينة لا تغادره: لأنها بكل معنى الكلمة: روح الرباعية.