مسرحية “طال عمره”: قراءة فنية في كوميديا الوعي الاجتماعي.

بقلم: أحمد السماري.
مسرحية “طال عمره”: قراءة فنية في كوميديا الوعي الاجتماعي.



شهد مسرح بكر الشدي في بوليفارد رياض سيتي واحدة من أكثر الليالي المسرحية تميزًا هذا الموسم مع العرض الكوميدي “طال عمره”، الذي يقوده النجم ناصر القصبي بمشاركة نخبة من أبرز فناني المسرح السعودي، من تأليف الدكتورة بدرية البشر وإنتاج بوليفارد ستوديو. ضمن فعاليات موسم الرياض، هي خطوة واعية نحو ترسيخ مسرح سعودي يحمل رؤيته النقدية داخل قالب يجمع بين الضحك الحيوي والجدل الاجتماعي الرصين.


يتكئ عنوان المسرحية على عبارة مألوفة في الثقافة السعودية، تستخدم أحيانًا بوصفها مدحًا، وأحيانًا لتجميل السلطة والوجاهة. عبارة “طال عمره” يستخدمها النص مفتاحًا منهجيًا لقراءة علاقات القوة داخل المجتمع. تبدو الأحداث للوهلة الأولى كحكاية أسرة ثرية تنتظر وفاة كبير العائلة للحصول على الميراث الضخم، لكن خلف هذا الموقف الساخر تختبئ طبقات رمزية تكشف طرق صناعة النفوذ، وانتقال القرارات المصيرية من أفراد معدودين إلى مصائر عائلات كاملة. بذلك يصبح المسرح مختبرًا اجتماعيًا يكشف ما اعتدناه دون مساءلة، وما ضحكنا عليه طيلة سنوات دون تفكير.


يقدّم ناصر القصبي أداءً يتجاوز المبالغة إلى السخرية الذكية، فيخلق توازنًا دقيقًا بين الإضحاك والجدل. كل حركة محسوبة، وكل وقفة مستقطعة جزء من الحكاية، كأن المسرح يتحول بوجوده إلى آلة حادة لكنها مرحة. في المقابل، يشكل فايز المالكي “ملحًا” مسرحيًا أصيلًا، يمنح العرض نكهة خاصة، ويكشف هشاشة الجدية حين لا يرافقها حس فكاهي. تتسع هذه الثنائية مع حضور حبيب الحبيب وبقية الفريق، الذين دعموا التوازن بين الحوار المباشر والتلميح الرمزي، فبدت الكوميديا أداة لطرح الأسئلة لا وسيلة للسخرية فقط.


ابتعدت د. بدرية البشر من خلال نصها عن الوعظ، معتمدة على المزاح الجاد لتشريح العلاقات داخل الأسرة الخليجية. الأب صاحب القرار، الابن الباحث عن ذاته، الأم التي تحاول الموازنة بين الأجيال… كلها شخصيات مألوفة، لكنها في المسرحية تتحول من نماذج نمطية إلى موضوع للتساؤل المجتمعي: كيف يمكن للأسرة أن تبقى متماسكة دون قوالب جاهزة؟ وكيف نُحسن التوازن بين التقليدية والحداثة دون أن نخسر أحدهما؟ بهذا الوعي، لا يقوم النص بالتنكيت على العيوب الاجتماعية،  لكنه يحوّلها إلى مادة تأملية تلامس واقع الأسرة السعودية دون ادعاء أو تنميط.

السينوغرافيا… لغة بصرية ترفع مستوى الفكرة،


جاءت السينوغرافيا جزءًا أصيلًا من النص المسرحي: إضاءة حادة في لحظات النفوذ، ديكور يستلهم تفاصيل البيت السعودي التقليدي، أزياء تعكس الهوية الاجتماعية بوصفها نصًا موازيًا للحوار.

هذا التوظيف البصري يعتبر عنصرًا من عناصر الحكاية، حَوَّل المشهد المسرحي من عرض كوميدي إلى تجربة جمالية متكاملة.


لا يستسلم “طال عمره” لفكرة التهريج، ولا يذهب إلى صدام مباشر. إنه عمل يختار طريقًا ثالثًا: المصالحة عبر الكوميديا الواعية. فالأسئلة الاجتماعية لا تُطرح باتهامات، إنما تم عكسها كابتسامة تكشف المشكلة وتلمّح إلى حلها.

كيف ننتقد أنفسنا إذا لم نضحك على مفارقاتها؟ وكيف نفكك سلطة العرف دون أن نجرّدها من رهبتها بالكوميديا؟

خاتمة: المسرح السعودي إلى أين؟

يمثل عرض “طال عمره” محطة مهمة في مسار التطور المسرحي السعودي؛ فهو يقدّم كوميديا لا تتخلى عن قيمتها الفنية، وفنًا لا يتخلى عن رسالته التربوية. وبين نص محكم وأداء محترف وإنتاج نوعي، يفتح العرض بابًا لتفسير جديد للكوميديا بوصفها وعيًا مسكوبًا في وعاء ترفيهي، وفنًا قادرًا على طرح الأسئلة دون خصومة.

المسرحية قُدمت بإنتاج وتنفيذ المنتج خالد الباز لصالح بوليفارد ستوديو، وبتوقيع إخراجي من يوسف البغلي، بمشاركة ياسر الحداد مساعدًا في الإخراج.

إنها مسرحية تعلّمنا كيف نصنع من المواقف الساخرة محطات تأمل لحياتنا… ونحن نبتسم.

كاتب وروائي سعودي.