ذاكرة وأسرار إبداع المتوسط فى الدورة ال 41 من مهرجان الأسكندرية السينمائى الدولى

تامر صلاح الدين
ذاكرة وأسرار إبداع المتوسط فى الدورة ال 41 من مهرجان الأسكندرية السينمائى الدولى


 



حظوظ المدينة غريبة، جمعت كل الفنون فى هذا العالم، أنشأت الكثير منها، أسست وطورت، ثم أهدت لمصر وللوطن العربى كل جديد فى الإبداع الإنسانى عموما، لكنها نسيت فى فترات، تراجعت، ترددت ثم تقدمت على استحياء، كأنها تستأذن بحرها وعالمها فى العودة إلى صدارة الأضواء.

ولد مهرجان الأسكندرية السينمائى عام 1979 من رحم جمعية كتاب ونقاد السينما التى أسسها كمال الملاخ فى عام 1973 ؛ انطلق المهرجان على استحياء ب 18 فيلم من 10 دول لكن بفيلم كبير، هو "ضربة شمس" كأول عمل للمخرج محمد خان، والذى أنتجه وقام ببطولته النجم نور الشريف بمشاركة كبار نجوم عصرهم: نورا، ليلى فوزى، توفيق الدقن وآخرين، أما اليوم فى الدورة الخامسة والعشرين فقد توسع المهرجان، ليضم 131 فيلما من 46 دولة متوسطية، عربية، وأجنبية، تتنافس أعمال فنانوها وأبطالها فى 7 مسابقات إضافة إلى واحدة مخصصة لكتاب السيناريو.

بهذا العدد من الأفلام والمسابقات والدول والنجوم، يبدو أن الأسكندرية التليدة تستعد لخطف أضواء العالم المتمدين من جديد، لتستعيد الصدارة الفنية والأدبية، لتقدم إلى جمهورها ومحبيها كل جديد فى الفن السابع.

التمويل والرسائل :

منذ دوراته الأولى، اعتمد المهرجان على وزارة الثقافة ومحافظة الإسكندرية كجهات داعمة، إضافة إلى رعاة محليين. ومع أن الدعم الرسمي مكّنه من الاستمرار، إلا أنه جعله أيضًا عرضة لتقلبات السياسة؛ فبينما كان يُفترض أن يظل فضاءً للفن، تأثر أكثر من مرة بتغير المزاج السياسي أو بمواقف الدولة من بعض البلدان. المثال الأوضح ما حدث عام 2013 حين سُحب أحد الأفلام التركية، في إشارة إلى أن الفن لم يكن دائمًا معزولًا عن الحسابات الكبرى.

 

الوجوه الأكثر بريقا:

  1. الأمير أباظة مع محمود حميدة وفى الوسط نورا أرمانى


خلال أكثر من أربعة عقود، مرّ على السجاد الأحمر للمهرجان عشرات الأسماء الكبيرة، فمن مصر، كُرّمت فاتن حمامة ونور الشريف ومحمود ياسين، ومحمود عبد العزيز وفي السنوات الأخيرة لطفي لبيب، وأُعلن عن تكريم ليلى علوي في دورة ال 41، كذلك استضاف المهرجان كبار المخرجين والفنانين من المغرب وتونس وفرنسا وإسبانيا، فأصبح فضاءً للاحتفاء برواد كالمخرج المغربي داوود أولاد السيد وغيرهم.

لكن التكريمات لم تكن مجرد مراسم رسمية؛ كثيرًا ما تحولت إلى لحظات إنسانية صافية؛ في إحدى الدورات، بكت النجمة الكبيرة يسرا على المسرح عندما استعرض المهرجان مشاهد نادرة من بداياتها، وقالت عبارتها الشهيرةا : "الإسكندرية منحتني ما لم تمنحه لي مدن أخرى"  وعنمدا كرم الفنان نور الشريف أصر أن يتجول في شوارع المدينة القديمة، رافضًا سيارات المهرجان، ليتبادل التحيات مع الجمهور الذي التف حوله.

تغيير الإدارة والوجوه:

منذ البدايات وحتى اليوم، تغيّرت أسماء من تولّوا إدارة المهرجان؛ لكنه ظل وفيًا لفكرته الأولى: أن يكون مهرجانا للنقاد، وفي العقد الأخير، ارتبطت الإدارة بالناقد والكاتب الصحفى الأمير أباظة رئيسًا للمهرجان، ومعه فريق من النقاد والمثقفين، أبرزهم المدير التنفيذي سمير فر، هذا الثبات الطويل نسبيا منح المهرجان استقرارًا، لكنه أوقعه أحيانًا في دائرة التكرار والاعتماد على نفس الوجوه.

ورغم ذلك، لا تخلو الدورات من مفاجآت؛ ففي دورة مبكرة من تسعينيات القرن الماضي، فوجئ المنظمون فى اللحظات الأخيرة بغياب نجم عالمي دُعي لتكريمه، واضطروا أن يحولوا الحفل إلى أمسية نقاشية مع النقاد لسد الفراغ، ورغم الإحراج، خرج الجمهور راضيًا وهو يتحدث عن "حيوية النقاش" أكثر من غياب الضيف، ما يعنى أن القدرة على إدارة النقاش والتحسب للمفاجآت تصبح أحيانا أهم من الحدث نفسه، وأكثر قيمة من النجم الذى لم يحضر.

توقف وتحدى:

المهرجان لم يتوقف نهائيًا، لكنه عرف أزمات، مثل جائحة كورونا عام 2020 التى أجبرت المنظمين على تقليص فعالياته وإلغاء مظاهر الاحتفال، في مشهد عكس هشاشة التجمعات الفنية أمام الكوارث الصحية، وعلى مستوى آخر، يواجه المهرجان تحديًا مزمنًا يتمثل في التمويل المستدام، والتنافس مع مهرجانات عربية كبرى مثل القاهرة، مراكش، ودبي، والتي تمتلك إمكانيات مادية وتنظيمية أكبر.

بل إن بعض الأزمات اتخذت طابعًا كوميديًا، ففي إحدى الدورات، تعطلت أجهزة العرض في قاعة مكتبة الإسكندرية أثناء عرض فيلم فرنسي، واضطر المخرج نفسه أن يقف ليشرح مشاهد فيلمه للجمهور حتى عاد العرض للعمل، الحكاية تحولت فيما بعد إلى "طرفه" يرويها ضيوف المهرجان باعتبارها دليلًا على أن السينما قد تعيش أحيانًا بالكلمة والخيال أكثر من الشاشة، وأن المبدع الحقيقى قادر على تجاوز الأزمات ولديه دائما الوعى والقدرة على التواصل مع جمهوره.

إنجازات المهرجان وتوسّع تأثيره:

لم يتوقف مهرجان الإسكندرية السينمائي الدولي عند حدود العروض والمنافسات الرسمية، بل تحوّل مع مرور الأعوام إلى منصّة صاعدة للمواهب الجديدة. فقد خصّصت إدارته مسابقات مهمة مثل" أفلام شباب مصر" التي شارك في إحدى دوراتها أكثر من 20 فيلمًا روائيًا قصيرًا إلى جانب نحو 30 فيلمًا وثائقيًا من إنتاج طلاب الجامعات، وبهذا فتح المهرجان أبوابًا واسعة أمام الجيل الجديد من السينمائيين ليختبروا طاقاتهم أمام جمهور حقيقي ولجنة تحكيم محترفة تضم نقادًا وفنانين وأكاديميين بارزين.

كما أطلق المهرجان ورش عمل متخصصة وندوات تقنية، كان من أبرزها ما يُعرف عالميًا باسم Masterclass، وهو لقاء مباشر يقدّم فيه نجم أو مخرج كبير خبراته لجمهور من صُنّاع السينما والطلاب، على شكل محاضرة عملية وحوار مفتوح، منها ما قدّمه النجم محمود حميدة في الدورة ال 38، كما  سبق أن استضافت ورش المهرجان أيضًا فنانين كبار مثل سيد رجب وسلوى محمد علي والمنتج محمد حفظي، الذين شاركوا تجاربهم مع شباب المبدعين.

ومع توسّع نطاق المهرجان، ازدادت قائمة الدول المشاركة لتشمل بلدانًا من أوروبا وآسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، كما تنوّعت أسماء النجوم المكرّمين والضيوف لتشمل مخرجين عالميين وممثلين بارزين من المغرب وتونس وفرنسا واليونان، إلى جانب حضور لافت من نجوم السينما المصرية، وهكذا ترسّخت مكانة مهرجان الإسكندرية باعتباره جسرًا ثقافيًا وفنيًا بين ضفتي المتوسط وبين العديد من دول العالم شرقا وغربا، ومنبرًا للسينما الشابة إلى جانب كونه احتفالًا بالفن السابع في أبهى صوره.

الدورة ال 41 آمل وسؤال:

لكن مع الإعلان عن إقامة الدورة الـ 41  في أكتوبر 2025، يتجدد السؤال: هل ينجح المهرجان في الاستمرار أن يكون أكثر من مجرد تقليد سنوي؟ تكريم ليلى علوي هذه المرة يبدو لفتة ذكية تضيف إلى رصيد نجمة لها حضور جماهيري واسع،  وبالطبع تضيف إلى رصيد المهرجان نفسه.

الأمل معقود على أن تنفتح الدورة الجديدة أكثر على الشباب وصانعي الأفلام المستقلة، وأن تسمح بتقديم موضوعات جرئية تحطم التابوهات البالية، خاصة مع الاستنارة التى تجتاح العالم حول القضايا الإنسانية المصيرية، مثل الحب والحرية وحق تقرير المصير والتعايش السلمى، كذلك نتمنى أن تحقق إدارة المهرجان القدرة على الجمع بين استعادة الوجوه الكلاسيكية العظيمة من أصحاب الخبرات الفنية والآدائية المتفردة إلى جوار وجوه شابة تقدم فنا حقيقيا متجاوز للمدراس العتيقة وقادر على تغيير نظرة الجمهور إلى العالم، كثيرون- وأنا منهم- يرون أن المهرجان يحتاج إلى "ثورة برمجة" تضعه فى موقع الريادة التى تستحقها مدينة الأسكندرية، ليصبح نافذة حقيقية على سينما المتوسط  والعالم، كما كان يحلم مؤسسوه، فهل تتمكن الإدارة الحالية من اللحاق بالمستقبل؟