الحقيقة والمتخيَّل في الرواية التاريخية.

بقلم: أحمد السماري
الحقيقة والمتخيَّل في الرواية التاريخية.

الحقيقة والمتخيَّل في الرواية التاريخية.

بقلم: أحمد السماري

لا يزال كثير من القرّاء يقفون عند السؤال القديم: أين ينتهي الواقع وأين يبدأ الخيال في الرواية التاريخية؟ والحق أن الرواية لا تُعنى بتقديم الوقائع كما دوّنها المؤرخ، دورها يقوم على استنطاق التاريخ ليبوح بما لم يُسجَّل في كتب التاريخ. فهي فنّ يقوم على المزج؛ يقتبس من الواقع نواته الصلبة، ثم ينسج حولها بخيوط الخيال حياة نابضة وصورًا حارّة.

الوقائع الكبرى – كقيام حرب، أو هجرة، أو كارثة – تستمد من أصل حقيقي. غير أن الحوار، ونبرة الصوت، ونظرة العين، وخفقة القلب، وتفاصيل الحياة اليومية، لا يخبرنا بها التاريخ. إنها المساحة التي يتسلل إليها خيال الروائي ليمنح الشخصيات لحمها ودمها، ويحوّل الورق اليابس إلى مشهد حيّ يتنفس ويتكلم.

ما سيجده القارئ النبيه في رواية فيلق الإبل مثال جليّ على هذا التداخل. شخصية الحاج علي (Hi Jolly) حقيقة محفوظة في التاريخ، وقبره الماثل في ولاية أريزونا – تعلوه هيئة جمل من البرونز – شاهد على سيرته. لكن ما دار بينه وبين الضباط من حوارات، وما خَبِرَه مع رفاقه من تفاصيل الحياة اليومية أثناء مشاركتهم في الحرب الأهلية الأمريكية، هو من عمل الخيال الذي يملأ فراغات التاريخ. هكذا يصبح القبر علامة على الحقيقة، فيما يمنح السرد الروائي تلك الحقيقة روحها وحرارتها.

الرواية التاريخية إذن ليست إعادة السرد للتقارير، هي بناء جسر بين ما وقع بالفعل وما يمكن أن يكون قد وقع. هي دعوة لقراءة الماضي بعيون القلب، لا بعيون المؤرخ وحده؛ ولعل هذا ما يجعلها أكثر إقناعًا وتأثيرًا في وعينا ووجداننا. فالحقيقة الموضوعية قد يصعب علينا تذوقها إذا عُرضت في جفافها، أما حين يعيدها الإبداع في صياغة وجدانية ولغوية، فإنها تمنح القارئ فرصة لعيش الماضي كأنه حاضر يتفاعل أمامه.

التاريخ يدوّن الحقائق، والرواية تعيد لها تكمله المشهد بالروح والمعنى.