مهذل الصقور: نار القصيدة وظمأ العاشق

بقلم: أحمد السماري.
مهذل الصقور: نار القصيدة وظمأ العاشق



في الجنوب السعودي، وفي نجران، عند تخوم الأخدود، وُلد صوت شعري مغاير اسمه مهذل بن مهدي بن ظافر الصقور اليامي. نشأ في بيئة يفيض فيها الشعر من المجالس كما يفيض الضوء من نوافذ الطين، وتربّى على يد شاعر هو والده مهدي بن ظافر، الذي غرس فيه الحسّ العميق بالكلمة، وسقاه من معين القافية حتى ارتوت روحه بها. ومنذ ذلك الحين، أصبح الشعر امتدادًا لصوته، وملامح تجربته لا تُختزل في لون واحد، لكنها تتدرج كقوس قزح وتتنوع بين الفصيح والنبطي، بين الوجدان والغضب، بين اللهفة والموقف.
في قصيدته المشهورة“أتظن أنك عندما أحرقتني”، نسمع رجع النار ليس بوصفها دمارًا، ولكن باعتبارها بداية ثانية. القصيدة تعلن عن شاعر يكتب من الرماد لكنه لا يرضى بالبقاء فيه. يبدأها مخاطبًا خصمه بنبرة مشبعة بالسخرية والاحتقار:
أتظن أنك عندما أحرقتني
ورقصت كالشيطان فوق رفاتي
وتركتني للذاريات تذرني
كُحلًا لعين الشمس في الفلوات
هذه الأبيات تفيض بعنف داخلي هادر، لكنها لا تنزلق إلى الانكسار، إنها تتقدّم نحو إعلان عنيد للوجود، يستمد شرعيته من تحدي الخصم ومن أثر النار:
عبثًا تحاول… لا فناء لثائر
أنا كالقيامة ذات يوم آت.
القصيدة تمثل وثيقة شخصية، ممهورة بحرارة التجربة، ونَفَس التحدي، وترسّخ مكانة صاحبها كشاعر يصوغ رؤيته بلغة تحتمل الخطر و تتجاسر عليه.
وحين يكتب مهذل في الغزل، تتغير لهجة القصيدة، وتصبح العاطفة فيه كأنها تيار دافق من الصور والرغبات والعمق. في قصيدته “ابتسمي أرجوك”، يختصر حالة الوجد بلمحات خاطفة، ومجازات مشبعة بالحسّ واللمس:
إبتسمي أرجوك ابتسمي
لأرى حبات الرمان
وأقتربي فأنا ظمآن ذبلت
من ظمئي أغصاني
هنا نلاحظ أن الشاعر يمجد الجمال، ويُعيد تشكيله عبر لغة حميمة لا تقف عند الحدود التقليدية. في قوله:
وأنا عربيد سيدتي
وسلآفة ثغرك إدمآني
يتحوّل العشق إلى حالة من التورط العميق، والارتباط الحتمي، حيث المرأة كيان للحب يهدد توازن الشاعر، ويعيد صياغة وجوده. ويستمر هذا الانغماس في لحظة اعتراف نادرة، فيها من التوتر ما يكفي ليحمل القصيدة كلها على ظهر شطر واحد:
عذلوني فيك فقلت لهم
معذرة ليس بإمكاني
أن أطفئ قنديل حيآتي
أن أهدم كعبة وجدآني
كل بيت يحمل حالة متقدة، والرغبة تتحول إلى ما يشبه الحاجة الملحّة، كأنها قانون داخلي يسري في كل خلية من جسد النص.
مهذل شاعر لا يهمه الإعجاب السريع، ويتجاوز الأفكار السهلة. نصوصه تُبنى على نبرة شخصية، وثقة عالية بالإحساس، وقدرة نادرة على تحويل اللحظة العادية إلى مشهد كثيف، يصعب تجاوزه. هو شاعر يكتب كمن يخطّ سيرة قلبه، بلا قناع، بلا تزيين، وبإيمان مطلق بأن الشعر لا يُولد إلا في لحظة صدق.
لا يحتاج إلى حشد الصور ليستعرض مهارته، ولا يكرر نفسه. في كل نص يفتح نافذة على شعور جديد، وعلى مساحة وجدانية تسكنها المفردة الحارة، والنبرة المتوترة، والانحياز الكامل لما يشعر به، وبما لا يُتوقع منه. كأن الشعر لديه ضرورة للعيش، ونسق للحياة، يتشكل بتقلبات أحوالها وأهوالها.