الكتابة… من رفرفة الطيور إلى سخاء القلب.

أحمد السماري
الكتابة… من رفرفة الطيور إلى سخاء القلب.



تحكي لنا الكاتبة الأميركية المعروفة آن لاموت حكاية صغيرة، لكنها تحولت إلى مجاز كبير في عالم الكتابة. قبل ثلاثين عامًا، كان شقيقها الأكبر – في العاشرة من عمره – يحاول إنجاز تقرير مدرسي عن الطيور، كان قد مُنح ثلاثة أشهر لإعداده، لكنه تركه حتى ليلة التسليم. جلس محاطًا بالكتب والأوراق، على وشك البكاء من ضخامة المهمة. اقترب والده منه، وضع ذراعه على كتفه، وقال بهدوء:

“طائرًا تلو الآخر… خذها طائرًا تلو الآخر.”

هذا الدرس البسيط صار عنوانًا لكتاب لاموت المشهور "Bird by Bird"، وأصبح طريقة في التفكير في الكتابة والحياة معًا. فالمشاريع الكبيرة تُنجَز خطوة خطوة، وسطرًا بعد سطر، ومشهدًا إثر مشهد. لا تحتاج أن ترى نهاية الطريق منذ البداية، يكفي أن تعرف الخطوة التالية.

كما ترى الكاتبة الأمريكية آن لاموت أن الكتابة، في جوهرها، ليست فعلًا أنانيًّا أو بحثًا عن مجد شخصي، أنها في الواقع عمل يتسم بالسخاء والكرم. الكاتب، في نظرها، هو أشبه بمضيف يفتح بيته على مصراعيه ليستقبل الناس، يقدّم لهم الطعام والشراب والرفقة، لكن طعامه هنا من نوع آخر: كلمات وأفكار وحكايات. تقول لاموت:

“إذا كنت تعطي بسخاء وبدون قيد، سوف يكون هناك دائمًا أكثر… وهذا يعتبر واحدًا من أعظم المشاعر المعروفة لدى البشر، شعور كونك مضيفًا… أن تكون الشخص الذي يأتون نحوه للطعام والشراب والرفقة. وهذا هو ما يقدمه الكاتب.”

الكتابة، إذن، هي هدية تُمنَح لا صفقة تُعقَد. وحين يدرك الكاتب هذا المعنى، يتحوّل عمله من سعيٍ إلى الاعتراف أو التصفيق، إلى مشاركة صادقة مع العالم، يُصبح فيها أكثر امتلاءً كلما أعطى أكثر.


تنصح لاموت وتحذر من توهم الكمال. فبين السخاء في العطاء، والصبر على خطوات الكتابة، يقبع فخٌّ خطير: الكمالية. نيل غيمان يحذّر منها قائلًا:

“السعي للكمال يشبه السعي وراء السراب، فاستمر فقط في المسير.”

وديفيد فوستر والاس يقول:

“إذا كان إخلاصك للكمالية عاليًا جدًا، فلن تنجز أي شيء.”. أما لاموت نفسها فتصفها بحدة:

“الكمالية هي صوت الظالم وعدو الشعب. الكمالية سوف تقيد حريتك وتدفعك للجنون لبقية حياتك، وهي تمثل عقبة رئيسية تحول بينك وبين كتابة حتى ولو مسودة أولية رديئة.”

في نظرها، الكمالية ليست دقة فنية، لكنها وهمٌ جليديّ، يقيد الكاتب عن أن يبدأ أصلًا. والبديل عنها يكمن في الفوضى الخلّاقة، التي تعتبرها الصديق المخلص للمبدع. فهي التي تسمح لك أن تكتب مسودة أولى غير مثالية، لكن حقيقية وحيّة، ومنها تبدأ عملية التهذيب والتحسين.

تذكّرنا لاموت بأننا، حين كنّا أطفالًا، كنّا بحاجة إلى الفوضى لنعرف من نحن، ولماذا نحن هنا، وماذا نريد أن نقول. الكتابة لا تختلف عن ذلك. لا يمكنك الوصول إلى جوهر صوتك الكتابي وأنت متجمد داخل قفص الكمال المصطنع. عليك أن تترك العبارات تتنفس، أن تقبل العثرات والسهو، وأن تؤمن بأن التحسن والتطور يأتي لاحقًا، لكن البداية يجب أن تكون فوضوية بما يكفي لتكون حقيقية.

الكتابة، كما تراها آن لاموت، رحلة تبدأ بالسخاء وتنمو بالصبر وتكتمل بالشجاعة. السخاء في مشاركة ما تحب مع الآخرين، الصبر على كتابته طائرًا تلو الآخر، والشجاعة في مواجهة فخّ الكمالية بالفوضى المبدعة. الكاتب الذي يدرك هذه المعادلة يظل نهرًا جاريًا بالعطاء، بعيدًا عن الجمود والتصنّع، قادرًا على أن يقدّم للعالم أجمل ما لديه… بلا خوف من النقص، ولا توهّم بالكمال