الكوريوجرافر علي الجندي: الفنان لا يُكرَّم بل يُحاسَب.. وأعيش فى حالة حصار على مستوى الوطن العربى

حوار: حليمة محمد براهمى
الكوريوجرافر علي الجندي: الفنان لا يُكرَّم بل يُحاسَب.. وأعيش فى حالة حصار على مستوى الوطن العربى

منذ أكثر من خمسة عقود، يسير الفنان علي الجندي بخطى ثابتة في ساحة الفنون الشعبية والاستعراضية، واضعًا بصمته كأحد أبرز مخرجي الرقصات ومؤسسي الحركات الفنية المرتبطة بالتراث المصري. وُلِد عام 1946 بمدينة الإسكندرية، وبدأ مسيرته الفنية بتأسيس فرقة الإسكندرية للفنون الشعبية عام 1968، وظل مديرًا ومخرجًا ومدربًا لها وأيقونة متجسدة حتى اليوم، مقدِّمًا عروضًا تراثية ذات طابع حداثي، حافظت على الهوية المصرية وعبّرت عنها بحس فني عميق.

تولى مناصب قيادية مهمة، أبرزها المفوض العام للإدارة المركزية لقطاع الفنون الشعبية والاستعراضية بوزارة الثقافة، كما أسس فرقة الإسكندرية الاستعراضية الغنائية، وفرقة الإسكندرية المسرحية التابعة للبيت الفني للمسرح عام 1999. وشارك في المجال الأكاديمي كأستاذ غير متفرغ في المعهد العالي للباليه والمعهد العالي للفنون الشعبية بأكاديمية الفنون.

وفي عام 2002، تعاون مع الفنان شريف الجندي في تأسيس فرقة "الوهج الإسكندرية" للغالية والرقص الحر، والتي استمرت حتى عام 2017 دون أي دعم مؤسسي، معتمدًا على الإبداع الخالص والإنتاج المستقل.

يُعد الفنان علي الجندي من أوائل من أسسوا منهج الدراما الحركية في مصر منذ السبعينيات، وله رؤية خاصة في دمج الرقص بالمضمون الدرامي واستلهام التراث في بناء عرض فني متكامل يتجاوز الترفيه ليطرح قضايا ومعاني أعمق.

حصل على جائزة الدولة للفنون عام 1987 عن تصميمه الاستعراضي لأسطورة "إيزيس وأوزوريس"، وهي الجائزة الوحيدة في مجال تصميم الرقصات (الكوريوجرافيا) بتاريخ جوائز الدولة المصرية. كما نال وسام الامتياز من الطبقة الأولى من رئيس الجمهورية عام 1989. كرمه المركز الثقافي القومي بدار الأوبرا المصرية أربع مرات بمنحه درع التميز، واحتفى به المهرجان المصري الدولي للرقص الحديث عام 2009، تقديرًا لكونه أول من تناول الرقص المصري تجريبيًا في منتصف السبعينيات. كما كُرِّم في مهرجان دمنهور الدولي عام 2017 لدوره الريادي في خدمة الثقافة الوطنية.

ولأعماله مع فرقة الإسكندرية للفنون الشعبية، نال العديد من الجوائز والتكريمات العالمية، تثمينًا لعطائه الفني المتفرد.

وفي هذا الحوار، نقترب من عالم هذا الفنان الكبير، لنتعرف إلى رحلته الطويلة، وفلسفته الفنية، وقراءته الخاصة للتراث والرقص والتعبير الحركي، من قلب تجربته الثرية التي صنعت ملامح مدرسة مصرية مميزة في هذا المجال.


الفنان الكبير على الجندى فى أحد حفلات التكريم

كيف يمكن للموقف أن يوازن بين الالتزام بقضايا المجتمع والاحتفاظ بالتجربة الفكرية؟

أنا أرى أنني مشترك في قضية الواقع العام، وأؤمن بأن المثقف إذا كان بلا قضية أو مهمة، فهو مجرد مثقف تقليدي، ينكب على قراءة المعلومات وتكديسها، ثم يستعرضها في حياته اليومية دون توظيف حقيقي لها في مجتمعه. أما الفنان، فمن الأساس لا يمكن أن ينفصل عن القضايا، لأن الإبداع ـ كما أراه ـ إذا لم يكن متفاعلًا مع الواقع، متجذرًا في التاريخ، ومستشرفًا للمستقبل، فإنه يظل إبداعًا ناقصًا. لذلك، أرى أن على المبدع أن يحمل قضية. وطالما أنه ملتزم، خاصة إذا كان من المثقفين الوطنيين، فلا يستطيع أن يضع القضايا الوطنية أو المجتمعية الملحة جانبًا أو يتركها خيارًا يتأرجح بين القبول والرفض. على العكس تمامًا، أعتقد أن المثقف والمبدع يجب أن يتجه بنفسه نحو هذه القضايا، لا أن ينتظر أن تطرق بابه ليقرر إن كان سيتعامل معها أم لا. إن المبدع الحقيقي مُلزَم بأن يتبنى القضية ويجعل منها منهجًا ومسارًا دائمًا في فكره وإبداعه، لأنه لا يمكن أن ينعزل عن قضايا الناس. فدوره والتزامه لا يخصه وحده، بل يمتد إلى الجماهير التي يتوجه إليها بفنه وفكره. لذلك، فإن المشاركة في قضايا المجتمع ليست خيارًا، بل هي جوهر دوره كمثقف ومبدع.

ما هي المسؤولية الأخلاقية التي تقع على عاتق المثقف تجاه الواقع السياسي والاجتماعي؟

لا يمكن، ولا يجب، أن تكون قضية المثقف تجاه وطنه موضع مساومة أو تردد، فالقضية الوطنية ليست محل نقاش، بل هي التزام أخلاقي عميق لا يحتمل الحياد. لا يصح أن يقول المثقف: قد يحدث كذا وكذا، وقد يتخذون ضدي موقفًا، لأن من يحمل الوعي عليه أن يتحمل تبعات مواقفه، لا أن يختبئ وراء الخوف. المثقف الحقيقي لا يقف موقف المتفرج. هو منحاز دائمًا لقضايا الوطن، منحاز للعدل، منحاز للحقيقة. هذه ليست وجهة نظر، بل عقلية مختلفة، عقلية ترى في الانحياز للحق واجبًا، لا خيارًا. منذ السبعينيات، وأنا أعيش حالة حصار فكري في العالم العربي، أشعر بها تتجدد كلما رأيت ما يحدث في الأرض المحتلة، والكل يتفرج، لا أحد.

هل ترى أن الإعلام يساهم في دعم المثقف أم يُضعف تأثيره؟

الإعلام، تاريخيًّا، لم يكن إعلامًا وطنيًّا بالمعنى الحقيقي، بل كان في الغالب إعلام سلطة. ولهذا، حين يتعامل المثقف مع هذا الإعلام، يجب أن يتحلى بالشجاعة والوضوح، وأن يرفض الانصياع للقوالب التقليدية التي يسعى الإعلام لفرضها. فالصحافة المصرية – عندما تواجه مسارًا حرًّا ومستقلًّا – لا تحتضنه، بل تسعى إلى محاصرته بالمراقبة وتقييد حرية التعبير، فتفرض على الصحفي أو المثقف ما يجب قوله وما يجب السكوت عنه. ورغم كل هذا التضييق، لا يمكن إنكار وجود صحفيين وطنيين حقيقيين، يحملون ضميرًا حيًّا، ويواصلون أداء دورهم بشجاعة في الدفاع عن الحقيقة وقضايا الوطن، خارج دائرة الفرجة، وكأننا استبدلنا الفعل بالمشاهدة، والموقف بالصمت.

كيف ترى دور المثقف في تشكيل وعي المجتمع اليوم؟

أرى أن المثقف في الوقت الراهن يجب أن يظل مؤمنًا بأن للشعب حقًّا عليه، وأن يلتزم بإنتاج فكري وإبداعي يرقى إلى مستوى يليق بالشعب المصري ويعبِّر عن تطلعات الجماهير وهمومهم. فدوره لا يقتصر على المعرفة فقط، بل على المساهمة الفاعلة في بناء وعي مجتمعي حي ومسؤول.

كيف يمكن استعادة ثقة المجتمع في دور المثقف، خاصة بين الأجيال الشابة؟

لا بد من السعي إلى مشروع ثقافي حقيقي، يعبر عنه الشعب بإصرار، وتلتزم به الدولة تحت ضغط جماهيري واضح. أي أن يُفرض على الدولة، لا أن يُنتظر منها منحة أو مبادرة؛ وفي تقديري، المشكلة لا تكمن في غياب المثقفين، بل في غياب حركة ثقافية منظمة. فلدينا مثقفون كثر، لكنهم يعملون كلٌّ في جزيرته المنعزلة، لكل منهم رؤيته، ولا يجمعهم إطار أو رؤية مشتركة تمكّنهم من تشكيل قوة ضاغطة وفاعلة في المجتمع. ولقد قلت من قبل، ونحن في أمسّ الحاجة إلى ذلك: لا بد من تأسيس إطار جامع يضم المثقفين الوطنيين الحقيقيين، ممن يؤمنون بقضايا الشعب، ويملكون القدرة على بلورة مشروع ثقافي جماعي يكون بمثابة أداة ضغط مؤثرة في مواجهة السلطة، واستعادة مكانة المثقف في وجدان المجتمع، لا سيما بين الأجيال الجديدة.

حضرتك حصلت على العديد من الجوائز، ما هي الجائزة الأهم في مسيرتك؟

نعم، حصلت على جوائز عديدة، ولكل واحدة منها مكانة خاصة عندي، لكن تبقى الجائزة الأهم بلا شك هي تكريمي من القائد الراحل ياسر عرفات عام 1968، وكان ذلك عن تصميمي لرقصة الدبكة بالكلانشينكوف في بدايات تشكيل حركة فتح. هذه الرقصة كانت تجسيدًا فنيًّا لفدائيين فلسطينيين يرتدون الزي الميداني ويحملون الكلاشينكوف، وقدمت كتحية لحركة فتح والدورة الفلسطينية، وكانت لحظة عظيمة بكل ما تحمله الكلمة من معنى، فنيًّا وسياسيًّا. وأهمية هذا التكريم لا تنبع فقط من قيمته الرمزية، بل من اتساقه مع موقفي الواضح والثابت تجاه الكيان الإسرائيلي. فعلى الرغم من التحذيرات التي كانت تلاحقني، خاصة في المطارات، لم أتراجع أبدًا. أذكر تمامًا تلك الواقعة في شنغهاي، حين جلس الوفد الإسرائيلي أمامي خلال أحد العروض، طالبت بنقلهم على الفور، لأن موقفي من القضية الفلسطينية لا يحتمل المراوغة ولا المجاملة. ورغم حصولي على العديد من التكريمات الدولية، إلا أنني اليوم لا أحب أن أكرَّم، بل أرى أن الفنان الحقيقي يجب أن يُحاسَب لا أن يُكرَّم. قلت ذلك صراحة في مهرجان الإسكندرية العام الماضي، عندما صعدت إلى المنصة لتسلم التكريم، قلت أمام الجميع: لا أحد يكرمني، أنا أرفض التكريم... أنا عايز حد يحاكمني. لأن المحاسبة هي التي تمنح للفنان شرعية صوته ومواقفه.

ومن الجوائز التي أعتز بها أيضًا جائزة "الدولة" عام 1987، وهي أول وآخر جائزة تُمنح في مجالي، مجال الكوريوغرافي وتصميم الرقص. حصلت عليها عن استحقاق، وبإجماع لجنة التحكيم، عن عرض "إيزيس وأوزوريس"، الذي صممته انطلاقًا من تناص رمزي مع عبور حورس، في إسقاط فني على عبور أكتوبر 1973. كان عملًا ضخمًا ومتكاملًا، وبعدها بعامين، حصلت على جائزة رئيس الجمهورية، ثم كرمت ثلاث مرات من دار الأوبرا المصرية، وهو تكريم غير مسبوق لم يحدث لأحد قبلي ولا بعدي. أما بقية الجوائز، سواء كانت محلية أو دولية، فهي محفوظة في صندوق بمنزلي. فأنا بطبيعتي لا أهوى الأضواء، ولا أبحث عن الواجهة، بل أفضل أن أعمل في صمت، في الظل، مدفوعًا بإيمان عميق بأن الفن رسالة ومسؤولية.

كلمة أخيرة؟

أنا لست متضررًا على الإطلاق مما يحدث لي، لأنني أؤمن إيمانًا راسخًا بأن الثقافة الوطنية ما تزال تحمل في جوهرها خيرًا وفيرًا، وأنها الملاذ الحقيقي، وقارب النجاة لضمير الوطن المصري. والمثقفون الذين لم يمارسوا دورهم بعد، لن يتمكنوا من ذلك إلا من خلال إطار جامع، يتيح لهم التعبير عن مبادئهم، ورؤاهم، وتطلعاتهم، والعمل سويًّا من أجل تحقيقها. خذوني مثالًا بسيطًا: أنا أعترض بشدة على تمثال "نوبار" الذي وُضع، عن خطأ واستهانة، أمام أوبرا سيد درويش. فالأوبرا، لكي تبقى فعلًا منارة فنية، لا بد أن تكون مخلصة للفن، لا منصة لتمجيد السلطة.

للأسف، تحوَّل المكان إلى ما يشبه "مصنع سيد درويش"، في دلالة رمزية فجة، تعكس مدى انسياقنا الأعمى وراء النموذج الغربي، دون إدراك حقيقي لمعنى الرمزية أو قدسية المكان. والطريقة التي نُصِب بها التمثال جعلتني أعزف عن المرور بشارع فؤاد، إذ إن قدمي التمثال ترتفعان فوق رؤوس الداخلين، وهو مشهد أراه مهينًا ومرفوضًا تمامًا من الناحية الرمزية والإنسانية. إذ إنني أرى أن الأجدر بذلك الموضع هو تمثال لسيد درويش، تحيط به رموز الإبداع المصري، حيث يكون في قلب المنصة، ممسكًا بعوده كمن يرفع راية أو عصا مايسترو، وسط الناس، في ساحة تُسمى "منصة سيد درويش". يمكن أن تُطرح الفكرة على النحاتين المصريين لتُنفَّذ بروح فنية راقية، وتتحول إلى ملتقى ثقافي حي، يجمع المبدعين والمثقفين وعامة الناس، كإطار جامع لطرح الأفكار، وتبادل الرؤى، وتجديد الإبداع.