وادي الفراشات.. حين يتحول الحطام الإنساني إلى أجنحة نور

علي الشوكي
وادي الفراشات.. حين يتحول الحطام الإنساني إلى أجنحة نور


في روايته الأخيرة "وادي الفراشات"، يقدم الكاتب العراقي أزهر جرجيس تجربة أدبية متفردة، لا بوصفها مرآة سوداوية للواقع العراقي، بل كرحلة إنسانية عميقة تعيد اكتشاف الذات وسط ركام الفقد والخذلان. بعيدًا عن القراءة المباشرة التي تتوقف عند نقد النظام أو استدعاء البؤس، ترسم الرواية ملامح لصراع داخلي ينبض بالحياة، وتُظهر كيف يمكن للإنسان، في أعتى لحظات الهزيمة، أن يُخلق من جديد، ويصير الفقد نافذة لا بوابة نهاية.


ضمن نشاطه المتواصل في استكشاف صوت السرد العربي المعاصر، ناقش نادي الكتاب في العاصمة الأردنية عمان هذه الرواية الصادرة عن دار الرافدين في 2024، والتي بلغت القائمة الطويلة للجائزة العالمية للرواية العربية، وهو ما يعكس ثقلها الأدبي وإنسانيّتها الرفيعة.

رحلة من الرماد إلى الضوء
الرواية، التي تقع في نحو 215 صفحة، تدور حول شخصية عزيز عواد، فتى تبدأ حكايته في الثالثة عشرة من عمره، وترافقه حتى بلوغه أواسط العمر. لكن الحكاية الحقيقية ليست في الأحداث بل في التحولات التي تطرأ على الروح؛ من الطفولة الفاقدة إلى الشباب المتعثر، إلى الحب الذي يحاول أن يمنح المعنى رغم الانكسارات، ثم اللحظة الفارقة التي يصبح فيها الموت خيارًا، لا بسبب اليأس، بل لفرط الإرهاق. ومع ذلك، فالرواية لا تغرق في السوداوية، بل تترك نافذة مشرعة على الأمل، كأنها تقول: حتى حين نظن أن النهاية قريبة، قد تُبعث الحياة من رمادنا.

اللغة والمجاز.. فراشات تحلّق في المعنى
لغة الرواية آسرة، رشيقة، تحتفي بالبساطة دون أن تفرّط في العمق، وتمزج بين الواقع والخيال ببراعة. تختار السخرية كوسيلة لا لتجريح الواقع، بل لتحييده وترويضه، فتُغلف المعاناة بطبقة من التهكم الذي يجعلها محتملة. ومن هنا تنبع جماليات الرواية؛ في تحويل التفاصيل القاسية إلى رموز قابلة للتأمل.

واحدة من أقوى الرموز في النص هي مقبرة وادي الفراشات، المكان الذي يُدفن فيه الأطفال المهملون، لتتحول أجسادهم إلى فراشات تطير في الفضاء. هذا المجاز الفاتن يُمثّل الخلاص الروحي لهؤلاء المهمشين، ويمنح الموت معنى مناقضًا لفكرته الأصلية. إنها فلسفة الحياة ما بعد الموت، أو بعث الجمال من أقصى مظاهر القسوة.

الكتب والحب.. وهج المعنى وسط العتمة
بموازاة خط الأحداث، نجد مكتبة الخال جبران، التي لم تكن مجرد خلفية مكانية، بل نقطة التحول الكبرى في وعي عزيز. هناك، حيث كان يُفترض به أن يُذاكر، اكتشف ذاته، عبر الكتب، في مواجهة نمط الحياة الضاغط. الحب أيضًا يلعب دورًا جمالياً وإنسانيًا في حياة البطل؛ فـ"تمارا" ليست فقط شريكة عمر، بل مرآة جروحه ومراوغاته وقدرته على الغفران لنفسه وللعالم.

حتى حين يخذله كل شيء، وتنهار العلاقة، لا تتوقف الرواية عند هذا الفقد، بل تدفع القارئ للتأمل في: ماذا يبقى منا عندما يخسر الإنسان كل شيء؟ وفي الإجابة، يضع جرجيس أجنحة فراشة على ظهر البطل، تمنحه قدرة على الطيران، لا الهروب.

تحوّلات النفس وصيرورة الإنسان
الرواية لا تسعى إلى إدانة الواقع أو تمجيد المأساة، بل تركز على التغيرات الدقيقة في نفس الإنسان حين تمر به العواصف. شخصية مهند، الصديق الذي تغير دينيًا، تحمل دلالة على قابلية الإنسان للتحول، لأسباب قد لا تكون دينية أو اجتماعية فقط، بل نفسية وجودية بالدرجة الأولى. في مرآة مهند يرى القارئ وجوهًا متعددة لمجتمع يعيد تشكيل نفسه باستمرار، وهذا ما يمنح الرواية بُعدًا تأمليًا بعيدًا عن الأدلجة.

لماذا يجب قراءة "وادي الفراشات"؟
لأنها لا تكتفي بالحكي عن الوجع، بل تُحوّله إلى شعر وأمل وبحث عن معنى. لأن أزهر جرجيس لا يقدّم رواية سياسية، بل إنسانية أولًا، ترصد الهشاشة والقدرة على النجاة، وتؤمن أن ما ينكسر يمكن أن يكون أكثر جمالًا مما كان.

الرواية، بهذا المنحى، تُضيف إلى مكتبة الأدب العربي عملًا متفردًا في بنائه ولغته ومناخه، يجمع بين بساطة الحكي وعمق الرؤية، وبين السرد التقليدي وجماليات المجاز، لتبقى "وادي الفراشات" رواية عن ولادة جديدة في قلب العتمة.