الشَّدَّة التِّلِمْسَانِيَّة… زِيٌّ مَلَكِيٌّ تَتَنَفَّسُ فِيهِ الجَزَائِرُ جزءا من هُوِيَّتَهَا وتاريخها المتنوع

حليمة محمد براهمى - الجزائر
الشَّدَّة التِّلِمْسَانِيَّة… زِيٌّ مَلَكِيٌّ تَتَنَفَّسُ فِيهِ الجَزَائِرُ جزءا من هُوِيَّتَهَا وتاريخها المتنوع

حين تطلّ العروس الجزائرية وهي ترتدي الشَّدَّةَ التِّلِمْسَانِيَّة، لا تظهر كعروس فحسب، بل كرمزٍ حيٍّ لزمنٍ كامل يتجلى في هيئة إنسانة، هذا الزيُّ الباذخُ ليس مجرّد لباسٍ يُرتدى في الأعراس، بل وثيقةٌ فنيةٌ ناطقةٌ بتاريخِ الجزائر، مشغولةٌ بخيوط الذهب، ومحفوفةٌ برمزية الأنوثة والشموخ.

إنها تحفةٌ ثقافيةٌ ضاربةٌ في القِدَم، تُعيدنا إلى زمنِ الملوكِ والقصور، حين كانت تِلِمْسَان عاصمةً للحضارة، وعروسَ المغربِ العربي تتزيّنُ بكلِّ عناصر البهاء الرفيع.

تعودُ جذورُ الشَّدَّة إلى القرن الحادي عشر الميلادي، في عهد الدولة الزِّيَانِيَّة، حيثُ كان ارتداؤها حكرًا على الأميرات ونساء النبلاء. ومع امتداد الزمن ونزوح الأندلسيين إلى شمال إفريقيا، تسرّبت إلى تصميمها نَفَحاتٌ أندلسية، فأصبحت مرآةً حضاريةً فريدةً تنعكسُ فيها التأثيراتُ العربية، والأمازيغية، والعثمانية، والأندلسية، في انسجامٍ تام.

ومنذ ذلك الحين، توارثتها النساء، فغدت اللِّباس الرئيسي للعروس التِّلِمْسَانِيَّة، وامتدّت شيئًا فشيئًا إلى معسكر، ووهران، ومستغانم، ثم إلى كل أنحاء الوطن، بل حتى إلى الجاليات في المهجر.

 

من أزياء الأمهات إلى ذاكرة الأمة: رِحلة الشَّدَّة من القُصور إلى قلوب النساء:

 

لم تَعُد الشَّدَّةُ مجرّد زيّ، بل مَنظُومَةٌ فنّيَّةٌ مُتكاملة، تتألّف من اثنتي عشرة قطعة تتراصّ على الجسد في تناغمٍ بصريٍّ يأسرُ الأبصار.

تبدأ الرّحلة بقطعةٍ تُدعى "الرَّدَّة"، وهي فستانٌ طويلٌ من قماش القَطِيفَة، بأكمامٍ واسعة، يُطرَّز بخيوطٍ ذهبية تُعرف محليًّا بـ"الفِتْلَة"، ويَنسدل برقّة حول الجسد.

تُضاف إليها "الرَّدَا"، وهي أشبه بـالقَفْطَان العثماني، تتميز بأكمامٍ قصيرة مزينة بزخارف دقيقة، وتغلفها قطعٌ أخرى مثل "المُثْقَلَة" و**"المُنَجَّدَة"**، وهما وشاحان فخمان، الأوّل بلونٍ غامقٍ مُطرَّزٍ يدويًا، والثاني بلونٍ فاتحٍ كالأبيض أو الأزرق، يُضيفان بعدًا ملوكيًا يُعزز وقار العروس.

تُرصّع منطقة الصدر بقطعةٍ تُسمّى "الجَوْهَر"، وهي أشبه بـ"صدرية مَلَكِيَّة" تتكوّن من خمسين قطعة من المجوهرات التِّلِمْسَانِيَّة التقليدية، تُثبَّت بشكل متراصٍّ لتشكّل لوحة ضوئية ناطقة بالثراء.

يتدلّى من أذني العروس "القُرْصَة"، أقراطٌ ضخمة تنسدل حتى الكتفين، وتتزين الجبهة بـ"الزَّرَارِف" اللامعة.

ومن حول الخصر يُربط وشاحٌ ذهبيٌّ يُدعى أيضًا "المُثْقَلَة"، يُزيد من أناقة الخطوط وانسجام الشكل.

أمّا الرأس، فيتوج بـ"الشَّاشِيَة" المعروفة أيضًا بـ"تِيدْج" كلمة أمازيغية تعني "التاج" وهي عبارة عن رأسٍ مخروطيّ الشكل، مُزيَّن من القاعدة بقلادة مذهبة تحيط بالجبهة، ومن الأعلى يُتوَّج بـسبعة إلى تسعة تيجان صغيرة مرصّعة بالأحجار الكريمة، ومتصلة بخيوط من الفِتْلَة الذهبية.

وهذا التاج المهيب لا يكتمل إلا بالمجوهرات التي تزيّن المعصمين واليدين، مع الخلاخيل التي تُغني الحركة بأنغامها، والحنَّاء التي تخطّ رسومات دقيقة على اليدين والقدمين، كأنها تعاويذُ حمايةٍ وحبّ.

ومع أن وزن الشدة يتجاوز في أحيان كثيرة 15 كيلوغرامًا، فإن ذلك لم يكن عائقًا، بل اختبارٌ رمزيٌّ لقوة العروس وصبرها، إذ يُنظر إليه كـ"شَدَّةٍ حقيقية" تثبت الاستعداد والتماسك.

 

تفاصيل الشَّدَّة التِّلِمْسَانِيَّة: أُسْطُورَةٌ من القَطِيفَةِ والخُيُوطِ الذَّهَبِيَّة :

رغم ثقلها، إلا أن الشَّدَّة رقراقةٌ في معناها، ثريَّةٌ في مغزاها، تجمع حضاراتٍ بأكملها في قطعة قماش:

  • "البْلُوزَة" تستوحي أصولها من اللباس العربي.
  • "الفُوطَة" من التراث الأمازيغي.
  • "القَفْطَان" من البصمة العثمانية.
  • "الشَّاشِيَة" من النكهة الأندلسية.

كلُّ ذلك في انسجامٍ ثقافيٍّ متفرِّد، يُجسِّد عبقرية الجزائري في المَزْج دون الذَّوَبان.

وقد اختلفت الروايات في تفسير تسمية هذا الزي بـ"الشَّدَّة":

  • فمِنهم مَن قال إنّها سُمّيت بذلك لشدة ترصيعها بالمجوهرات،
  • وآخرون يرون أنّ السبب يعود إلى طريقة شَدّ القطع على الجسد بشدة وتماسك،
  • وهناك من يربط التسمية بتقليد قديم كانت فيه المرأة تَشُدّ رأسها بالقماش وتزينه بالحلي، وكلّما زاد عدد لفاته زادت مكانتها الاجتماعية.

ولم يكن غريبًا أن تحظى الشَّدَّة التِّلِمْسَانِيَّة باعترافٍ عالميّ، حين صُنِّفت سنة 2012 من قبل منظمة اليونسكو ضمن قائمة التراث الثقافي غير المادي للإنسانية، بعد ثلاث سنوات من البحث والتوثيق، شمل الملابس، الحُلي، الموسيقى، والطقوس المرتبطة بالزفاف التلمساني.

 

بين الحماية والتثمين: الدولة تُوثّق التُّرَاث وتصون الهُوِيَّة:

ساهمت تظاهرة "تلمسان عاصمة الثقافة الإسلامية" عام 2011 بشكل جوهريّ في إعادة تسليط الضوء على هذا الزي، فكانت نقطة انطلاقٍ حقيقيَّة نحو استعادة مكانته الثقافية، محليًا ودوليًا.

ثم أُسِّس "المركز التفسيري للباس التقليدي الجزائري" في تلمسان، ليكون مؤسسةً بحثيةً ومتحفية، تحفظ وتفسّر اللباس التقليدي، وعلى رأسه الشَّدَّة.
يضمّ المركز معارض دائمة لأزياء تقليدية جزائرية، ونسخًا كلاسيكية وحديثة تتماشى مع متطلبات العصر دون الإخلال بالأصالة.

وإيمانًا بأهمية حماية هذا الموروث، أولت الدولة الجزائرية اهتمامًا بالغًا بـالشدة التلمسانية، حيث أكّد الرئيس عبد المجيد تبون مرارًا ضرورة حماية هذا اللباس من التقليد والسرقة الثقافية، وتثمين جهود الحرفيات عبر شهادات مطابقة رسمية تُنشر في الجريدة الرسمية.

هذا الإجراء يُعد نقلة نوعية في صون الهُوِيَّة الملبسية الجزائرية من التمييع التجاري أو الطمس الخارجي.

في النهاية، تبقى الشدة التلمسانية أكثر من مجرّد زيٍّ تراثى،
إنها شهادة من ذهب، تُكتب بخيوط دقيقة، وتحمل في ثناياها ذاكرة نساءٍ خَلّدَهُنَّ التاريخ، وجمالًا لا ينقضي، وهوية تقاوم النسيان. ليست فقط ما ترتديه العروس ليلة زفافها، بل ما تحمله في قلبها عن أمهاتها وجداتها، وما تضعه على رأسها كتاج من التاريخ، يلمع في عيون الحاضرين، ويهمس للعالم:

هُنا الجزائر… هُنا تلمسان.