رسالة إلى ابنى المستقبلى

سلمى خالد
رسالة إلى ابنى المستقبلى

نؤمن أن الإبداع يأتى أولا ثم يعقبه النقد، وأن من يضع قدمه بصدق وجدية على طريق الكتابة، يرى أن كلماته مهمة ويأمل أن تكون مؤثرة، هناك أعمال لا تجد رواجا فى بدايتها، وأخرى تهاجم بقسوة، وثالثة تنجح من أول حرف، يحدث هذا تبعا لعوامل كثيرة، ومقال سلمى خالد الذى نقدمه إليكم اليوم، هو خطوة على طريق طويل، لم نسمح لأنفسنا أن نحكم على كتابتها، على العكس وجدنا فى صياغتها الخاصة، مشاعر فياضة متخيلة بالطبع لأن الكاتبة فى سنى شبابها الأول، لكنها رأت نفسها أما، وحاولت أن تعبد طريقا لإبنها الذى تحلم به، تحمل رسالتها حكمة ورقة وفلسفة تحتاج إلى مزيد من العمق وإلى أن تصبح تجربة حقيقية، ننشر ما جادت به قريحتها دون تدخل منا، اللهم تصحيح الأخطاء الإملائية والنحوية قدر المستطاع، ونترك للقارئ أن يقرر بنفسه؛ أن يدعوها أو لا يدعوها إلى القيام بمحاولات أخرى واختبار قلمها فى موضوعات تختارها بنفسها، أيضا قد تكون هذه "الكتابة" فرصة لنا وللمتابع الكريم، خاصة الكاتبات الجدد، كى نزيد أمامهن من مساحة "الفرص" فننشر "لهن" كتاباتهن تحت شرط واحد هو ألا تكون مقالاتهن أو أى من أعمالهن قد سبق نشرها فى مكان آخر. كافيين آرت نيوز


 رسالة إلى ابني المستقبلي


 سلمى خالد


أريدك أن تعلم يا صغيري أن لا معنى لخوفك أو حبك أو كرهك. الجميع له معاناته وصراعاته الخاصة، مهما بدا قويًا للغاية وذا نفوذ وسلطة، فإنه يعاني، وهذه طريقته في إظهار ضعفه وقهره أمام الآخرين الذين لم يعترفوا بآلامه ولم يقوموا باحتوائه. لأنهم أيضًا لهم معاناتهم ومخاوفهم الخاصة... فهم يخافون أن يتم افتراسهم نفسيًا، فيغتالون الجميع نفسيًا ممن استطاعوا أن يصلوا منهم. يخافون أن يُعطوا، فلا يجدوا من يعطيهم فيموتون جوعًا، والجوع هنا ليس ماديًا فقط، بل هو مجاز لأي جوع: فالاحتياج النفسي جوع، الاحتياج للقبول الاجتماعي جوع، والاحتياج للمال جوع. الجميع خائفون أن يساعدوا الآخرين في أبنيتهم فلا يجدوا ما يكفي لبناء بيتهم الخاص. لا تخف يا صغيري، فمهما خسرت، فخسارة نفسك هي الأكبر. كن معطاءً بعد أن تعطي نفسك، فأنت لا تعطي لتأخذ، بل لأنك أكملت مرحلة في بنائك وقد زاد عنك أدواتك وخبرتك فتعطيها لآخر ليكمل ويتعلم مرحلته في البناء. فإنك إن استخدمت نفس الأدوات والخبرة، لن يتطور بناؤك، فماذا استفدت من خوفك؟ هل تخاف ألا تجد خبرة وأدوات أخرى فلا تبني مرحلته القادمة؟ وماذا بها؟ كن في استعدادٍ أن تبحث مرارًا وتكرارًا لتطور بناءك، فالجميع مثلك تمامًا خائفون ألا يكتمل بناؤهم، ولكن ما النتيجة؟ هل هناك أي جديد؟ هل استطاعوا أن يطوروا أي شيء؟ أليسوا متشابهين؟ أليس من المحتمل إن أعطيت ما زاد عنك أن تُعطى أنت أيضًا وتطور طريقة بنائك؟ يمكن أيضًا أن تجد من ساعدته يحاول تكسير بناءك، فهو يخاف منك وأنت لا تملك من هذه النوايا شيئًا. فلا داعي للقلق يا عزيزي، ففي كلا الحالتين ستكسب، وفي كلا الحالتين ستخسر. ففي حالة أن يساعدك أحدهم في بنائك، فقد زادك سرعة في إكمال مرحلتك، وأكسبك خبرة في معرفة طرق وأدوات أخرى. أما عن خسارتك، فهي أنك ضيعت فرصة أن تتعلم هذه الخبرة والطرق بنفسك... ففي طريق التعلم والبحث خبرة ومتعة، وليس فقط النتيجة. أما في الحالة الثانية، وهي أنه كسر بناءك، فقد أعطاك فرصة لتتذكر كيف ولماذا بنيته بهذا الشكل من الأساس، وأعطاك فرصة أخرى في تطوير هذا البناء بأن تصلح مرحلة فيه بأحدث خبراتك، مما يجعله أقوى. أما عما يمكن أن تخسره في هذه الحالة، فهو الوقت الذي بذلته في الأساس عند بنائه، ثقتك بأنك تحب مساعدة الآخرين قد تقل، ولكن لا تقلق يا عزيزي، فكلنا مليئون بهذه المشاعر، ولكنك لن تكسب شيئًا من عدم مساعدة الآخرين، فستتعلم لمن يمكن أن تفتح له باب بنائك ليتعلم ويشعر بالأمان، ومن يجب إخراجه من دارك، فهو لم يعد يريد أن يتعلم شيئًا، يريد فقط أن يخرب ذلك. لا تحزن يا عزيزي، فهو يعاني مثلك تمامًا، فقد علمته خبرته أثناء بنائه أن بناؤه لن يكون جميلًا إلا وفقط إذا كُسرت أبنية أخرى. لا تعاتبه، فهو قد تدمر بناؤه مرة بعد أخرى حتى فقد إيمانه بنفسه أنه يمكنه إكماله، أنت لا تحدثه الآن، بل تُحدث وحشه البدائي. لقد نسي أن المتعة في رحلة التعلم والبناء، وليس في أن يكتمل البناء. سيظل يصارع الآخرين، وآخرون يصارعونه، سينتصر مرة وربما أخرى، ولكن لن يدوم هذا طويلًا، فالقوي دائمًا هناك من هو أقوى منه. نشوة الانتصار بالقوة ممتعة، ولكن متعتها قصيرة، لن تعلمك الكثير. ولا تقلق إن نسب أحدهم طريقة بنائك لنفسه، فأنت من تعلمت هذه الطريقة بنفسك وتستطيع أن تتعلم دومًا غيرها، أما هو فلا يستطيع ذلك، أو أنه سيتعلم التعلم إذا ما أدرك أهمية ذلك، ولا يهم شيئًا، فأنت لا تتنافس مع غيرك، بل تتنافس مع نفسك... لا تكره، فكل مؤذٍ أسير لطفل غاضب وخائف لم يستطع أن يجد أمانه في نفسه، وظل تائهًا إلى أن ارتاح متعبًا بجانب رغباته البدائية التي ظن أن فيها أمانه، فتأكله شيئًا فشيئًا، حتى بدأ يشعر بالخوف من العدم، فيقدم آخرين قربانًا لجوع بدائيته ليرضيها، ولا ترضى. إذا تعاملت مع غاضب، فاعلم أنك تتعامل مع طفل خائف، فأعذره كمن يعلم ما مر به ليجعله كذلك، احتوِ مخاوفه، وإن شعرت أن مخاوفه ستحتويك فتأكلك، فبناؤك هنا، وإن لم يكن لك بناء فاحتمِ بنفسك. نحن يا صغيري لا نستخدم القوة للانتصار، بل لدفع الأذى، وسامح... فأنت تسامح ليس لأن قلبك طيب، ولكنك تسامح لأن الكره يثقل كاهل الإنسان ويجعله خائفًا، يوقف رحلة تعلمه ويدمره. أنت تسامح لأنك تعلم أن صراع النفس صعب، ومن الطبيعي أن يسقط الناس في فخ بدائيتهم، فلَطالما فعلوا ذلك. أزلّت قدمك في جحيم بدائيتك؟ لا تقلق، فهناك دومًا نقطة رجوع. رجعت وزلت قدمك مرة أخرى... أتشعر أنه يسحبك؟ لا تقلق، وإن لم يكن هناك نقطة رجوع، فاتخذ من جحيمك موطنك الجديد الذي ستصلحه وتطفئ نيرانه لتبني فيه بناءك المميز الجديد. ستكون مهمة شاقة، ولكنها ممتعة بالتأكيد، وستتعلم فيها الكثير عن جحيمك. الحياة أقصر من أن تعمل لأنك خائف، فلا تبذل مجهودًا في تعلمك، تريد نيل الأمان السريع، تحاول أن تحصل على مظهر بناء جيد وهو ركيك جدًا من الداخل، يحتاج مساندتك، فأنت لم تبنه بعلمك، بل بعلم غيرك. تذكر يا عزيزي أن البشر لم يتطوروا بأكل بعضهم البعض، بل بتعاونهم وصنع مجتمع يحميهم، فلولا ذلك، لما وُلدت من الأساس، ولكان أجدادك ماتوا تحت أنياب من هم أقوى منهم في الطبيعة. ومع ذلك، صراعنا مع بدائيتنا ما زال حيًا إلى اللحظة التي أكتب إليك فيها. هذا طبيعي يا عزيزي، ولولا صراعنا لما تطورت أبنيتنا. فلو انتهى صراعنا لصالح مجتمع متعاون لا يكره، يحل المشكلة ولا يحاول الانتقام فقط، لما كان هناك سبب لتطورنا. وأخبرك هذا وأنا لست متأكدةً منه، فلو وصل المجتمع لهذه المرحلة من السلام، لانقلب الوضع لصراعات مع الزمن، فالإنسان ما زال يتصارع مع بدائيته وحبه للتنافس والانتصار، كما أن المجتمعات تنسى، فتكرر أخطاءها مرارًا وتكرارًا. اجعل بناءك آمنًا لمن أراد الأمن والتعلم، وزر أبنية الآخرين في سلام لتتعلم... اجعل من بنائك مأوى لمن سعى للتطور، ولكنه تائه بين صراعاته ومخاوفه، ووجد فيه إلهامًا، ولربما تجد فيه إلهامًا أيضًا... تذكر يا عزيزي أن الحياة غير عادلة وغير متوقعة، فقد يحدث أيّ شيء ليساوي بناءك بالأرض. خذ استراحة لتفكر في أسباب ما حدث لك حتى تقلل احتمالية حدوثه مجددًا، ولكنك ستقف لتبنيه مرة أخرى أو تغير مكانه، فتستكشف أدوات وخبرات أخرى بجانب أبنية وأناس مختلفين، لأن لا هدف من الاستسلام. أنت هنا لتستمتع برحلة التعلم وتكون إلهامًا للأمان والتعلم. لن تأتِ معجزة ما، ولن يبقَ لك أحد ليساعدك، ولكنك تُقدَّر إذا كان أحدهم مثلك، يعطي ما زاد عن مرحلته، قد تجد ما يلهمك في طريق بنائك... لا تنتظر أن يتعاطف أحدهم معك، ومهما زادت معاناتك فكن ممتنًا إن كانت لك الفرصة لتجربة هذه الحياة، فإن كنت تعاني لأنه لم يعد لك بناء، فهناك آخر يعاني أن مبناه الكبير الجميل ينقصه نافذة أخرى، هل ستتعاطف معه؟ هل سيتعاطف معك آخر يموت معذّبًا عذابًا جسديًا؟ امضِ في طريقك وتعلم، فالموت واحد، والموت هو العدالة الوحيدة في هذا الكون الشاسع... لا تجعل مركز أمانك نابعًا من خارجك، فتصبح نفسك عدوك الذي تخاف أن تجلس معها وتحدثها، فتدرك كم ينقصك الكثير في بناءك، ولا تشعر بالأمان، فتهزمك بدائيتك. فطفلك الداخلي يحتاجك، يحتاج أن تطمئنه وأن تعلّمه. اجعل نفسك مركز أمانك الوحيد، الذي يجعلك تذهب إلى أي مكان فلا تشعر بالتهديد، فبناؤك الآمن وخبراتك هنا... فتعطي وتُعطى، تأمن وتؤمِّن، تُؤذى ولا تخاف، تستمتع بتطور وتغيّر بنائك، وتتعلم من الآخرين والعالم والطبيعة... فالعالم لا يتغير بمحاولة إصلاحه أولًا، ولكن بإصلاح نفسك معه. ولا تنخدع في ثناء الآخرين على بنائك، فتتوقف عن تطويره، فبناؤك ليس له حدود. كن ممتنًا، ولا تُبالِ، ولا تخف، فالخوف هو الخطيئة الأولى، التي تارة حمتنا، وتارة أخرى بها ظلمنا أنفسنا وغيرنا.