من سينما الواقع إلى كوميديا الضحك المأساوى: سيتفانو جانينى يبرز المعنى فى لقاء ثقافى بالأسكندرية

تامر صلاح الدين - مصر
من سينما الواقع إلى كوميديا الضحك المأساوى: سيتفانو جانينى يبرز المعنى فى لقاء ثقافى بالأسكندرية


الأسكندرية، ليست مجرد مدينة، بل حالة؛ ما أن تقترب منها حتى تقع فى غرامها، يصيبك الهوس بتاريخها القديم والمعاصر، ثم تسلب عقلك تماما كحبيبة تذيقك اللوع وتعدك بالغنج، وتتدلل عليك بثرواتها المخفية، التى هى فى الحقيقة تراثها وناسها وثقافاتها الفريدة التى اجتمع فيها الشامى والمغربى، الشرقى والغربى، الأوروبى والأفريقى، تمتلك جسورا مع الحضارات العريقة فى مصر، اليونان وبالطبع إيطاليا، ويقال أنها هى الرأس المصرى الذى يتنفس هواء المتوسط، فيها يلتقى الشعراء والفنانون والمثقفون والأكاديميون، لا ليقدموا انتاجهم فقط، بل أيضا ليستلهموا منها معانى التعددية والانفتاح والتقبل، كثير منهم يترك بصمته هنا، فتصبح أكثر خلودا وأبعد أثرا من أى مكان آخر، على أرضها نشأت كثير من الفعاليات والمؤسسات المهمة المعنية بالفنون والتراث والثقافات المتبانية التى نشأت فيها وبسببها، من بين هذه المؤسسات "ألكسندرينا الثقافية ANPIEMED والتى أشهرها رسميا كل من دكتور فرانشيسكو جيريكو، ودكتور آيات الميهى للحفاظ على التراث السكندرى المادى وغير المادى، تسعى "أليسكندرينا" إلى إعادة إنتاج هذا التراث والتوعية به وتقديمه إلى الأجيال الجديدة، كما يعنى أربابها بالتبادل الثقافى بين ضفاف المتوسط، وفى هذا الإطار تقيم المؤسسة فعاليات ثقافية وفنية مهمة، يحضرها متخصصون ومثقفون وفاعلون فى المجال العام السكندرى خاصة والمتوسطى عامة من مصر ومن خارجها.

ضيف مهم فى زيارة سينمائية:


البروفيسور ستيفانو جيانينى

فى هذا الإطار تستضيف ألكسندرينا البروفيسور ستيفانو جيانيى وهو أحد أبرز الأكاديميين الإيطاليين المعاصرين فى مجالى النقد الأدبى حصل على الدكتوراه فى الأدب الإيطالى من جامعة "جون هوبكنز" بنيويورك؛ ارتكزت أطروحته على السياقات المحلية والمقاهى الأدبية فى موطنه الأصلى، وهو حاليا أستاذ مشارك فى جامعة سيراكوز الأمريكية متخصصا فى اللغات والآداب واللسانيات، زار الأسكندرية ودرس فى جامعتها بداية من عام 2024 ضمن منحة "فولبرايت" للتبادل الثقافى والدراسات الأدبية.

عنوان اللقاء: "السينما الإيطالية بين الواقعية والكوميديا" شهرة جيانينى تأتى من اهتمامه البحثي حول الأدب الإيطالي الحديث، خاصة في سياقات الهجرة، الهوية، والفضاءات الثقافية، من  أبرز أعماله:

"Spatiality at the Periphery in European Literature and Visual Arts  الصادر فى عام 2023  وهو كتاب جماعي يبحث في تمثيلات الهامش والمركز في الأدب والفنون البصرية الأوروبية، و Tradition and the Individual Texz

وهو مجموعة مقالات تكريمية للناقد بير ماسيمو فورني ومقال بعنوان "Memory and the Realization of the Nothingness" (2018)، تناول فيه العلاقة بين الشاعرين الإيطاليين فيتوريو سيريني وجوزيبي أونغاريتي، مع تركيز خاص على مدينة الإسكندرية كمكان للذاكرة والغياب .

ومن اللافت أن الدكتور جيانيني لا يتناول إيطاليا بوصفها مركزًا أوروبيًا، بل يعتبرها، كصقلية ونابولي، جزءًا من جنوب واسع يمتد حتى شواطئ الإسكندرية، الجزائر، وبيروت.
لقد تناول في بعض دراساته السابقة مفهوم "الجنوب المتوسطي " كفضاء جمالي مشترك، حيث تتقاطع فيه الذاكرة الاستعمارية مع البحث عن الهوية، ويتحول فيه "الهامش" إلى مصدر للابتكار.


 الواقعية الإيطالية: سينما تخرج من بين الأنقاض:

 

ومن هنا، فإن اللقاء مع فنانين وكتاب ومهتمين من الإسكندرية ليس مجرد نقاش أكاديمي، بل استدعاء لتاريخ طويل من التبادل الثقافي بين ضفّتي المتوسط ، خاصة وأن اللقاء يشمل محورين مهمين عن السينما الإيطالية هما: " الواقعية ما بعد الحرب العالمية الثانية، عبر فيلم ٌ Riso Amaro أو "الأرز المر" والذى أنتج فى عام 1949  وتدور أحداثه في إقليم بيدمونت الإيطالي، في موسم حصاد الأرز، حيث تلتحق مجموعة كبيرة من النساء الفقيرات للعمل في حقول الأرز, وسط هؤلاء، تصل فرانشيسكا، الهاربة من الشرطة بعد مشاركتها في عملية سرقة مع صديقها والتر، فتلتقي سيلفانا، الشابة التى تعمل بجد ولكنها منفتحة ومتمردة، وسرعان ما تنشأ علاقة مشحونة بالتوتر والمواقف المدهشة بين الشخصيات الثلاثة. حول تطور السينما الواقعية الإيطالية   Neorealismo التي ظهرت بعد الحرب العالمية الثانية، حيث انتقلت الكاميرا من استوديوهات روما إلى الشوارع والأحياء الشعبية، لتوثّق معاناة الإنسان الإيطالي في مواجهة الخراب، والبطالة، وفقدان المعنى، أفلام مثل  Rome, Open City لروبرتو روسيليني، وBicycle Thieves  لفيتوريو دي سيكا، لم تكن فقط أحداثًا سينمائية بل تحوّلت إلى وثائق فنية لحقبة تحوّل  أثرت وغيرت فى كثير من المفاهيم والأخلاقيات الإنسانية ونظرته إلى عالم اليوم.

ومن المتوقع أن يقود الحوار إلى أسئلة عن كيف أثّرت هذه الواقعية في تشكيل وعي اجتماعي جديد، وخلق لغة سينمائية موازية للغة الأدب، وبناء علاقة بين الهوية والمكان، وهو ما قد يفتح بابًا للمقارنة مع سينمات "الهامش العربي" التي شهدت لحظات مشابهة بعد الاستقلال أو الثورة.


كوميديا ما بعد الحداثة، الضحك على أنقاض المعنى:

 

أما المحور الثانى فعن " كوميديا ما بعد الحداثة" ويبرزها ستيفانو  من خلال فيلم Come Un Gatto In Tangenziale أو " مثل قطة على الطريق الدائرى" انتاج 2017، يحكي الفيلم قصة جوفاني، وهو مفكر اقتصادي يعيش في أحد الأحياء الراقية بروما، ومونيكا، أم عزباء من حي شعبي، تلتقي به صدفة عندما تقع ابنته وابن مونيكا في علاقة حب مراهق، وبرغم الفجوة الطبقية والثقافية بين العائلتين، يجد جوفاني ومونيكا نفسيهما مضطرين إلى التعامل سويًا لحماية أطفالهما، ما ينتج عنه سلسلة من المواقف الكوميدية المؤثرة التي تكشف عن قوالب نمطية وتناقضات مجتمعية، وتطرح تساؤلات ذكية عن العدالة الاجتماعية، التحيز، والاندماج الطبقي.

ختاما، قد يكون المتوسط هو ما يربط البر فى الشمال والجنوب، أما الفن الذى يتحدث عنه البروفيسور ستيفانو جيانينو فهو جزء من ثقافة أعم وأشمل تجمع أصحاب المشاعر المرهفة والحس القوى، ومعهم المتطلعين إلى فن سينمائى حقيقى يشعل الأذهان ويقود الأرواح ويحقق المتعة الحسية الكاملة لصناع ومتلقى ومتابعى الفن السابع عبر العالم، تختلف المدارس ويبقى الإبداع خالدا مفاجئا يضفى النور على الإنسانية.