الصوت المقدس: من الغناء فى المعابد الوثنية إلى الترتيل والإنشاد الدينى

تامر صلاح الدين - مصر
الصوت المقدس: من الغناء فى المعابد الوثنية إلى الترتيل والإنشاد الدينى



تامر صلاح الدين – مصر

 

ماذا يحدث إذا فقدنا أصواتنا، أو إذا رجعنا إلى عصور ما قبل اختراع "اللغات" ؟ ستفكر أننا سنعود إلى لغة الإشارة وحركات الجسد لنتمكن من التواصل فيما بيننا، أٌجابتى مختلفة: سنفقد الحياة الاجتماعية وسنفقد معها الإيمان، وعلى الأقل ستختفى الصلوات الجماعية فى المعبد؛ الكنيسة، والمسجد. نعم.. سيحدث هذا، فكيف ستنشد الجوقة خلف الكاهن؟ من سيوحد "الكورال" فى الموسيقى الجورجورية؟ وبأى وسيلة سيقود الإمام جموع المصلين فى الركوع والسجود؟

لكن أولا: هل كانت هناك صلاة جماعية قبل ظهور الأديان الإبراهيمية؟ وما وسيلتها؟ وكيف كانت تؤدى الطقوس؟

هنا علينا أن ننظر إلى كل من الحضارة السومرية، والحضارة المصرية القديمة، فالصراع التاريخى الذى يدور حول "البدء" والعظمة والتأثير والامتداد ما زال متقدا، فى سومر أكتشفت صلاة مكتوبة على ألواح طينية تعود إلى عام 2600 قبل الميلاد، موجهة إلى "نينهورساج" أم الآلهة، هذه الصلاة - وفقا لعلماء الآثار- تلاها الكهنة فى المعابد، بصوت مرتفع ورددها معهم العامة فى صلاة جماعية مصحوبة ببعض الطقوس منها إشعال البخور، والغناء، وكانت عبارة عن ابتهال وتضرع؛ تقول:

يا نينهورساج، يا أمّ الآلهة،

أنت التي تمنحين الحياة، وتغذين من في الرحم،

باركي أرضنا، وأنعمي على حقولنا بالماء،

فلتتفتح الزهور في خطاك، ولتمنحي شعبنا الخصب والسلام"

بالطبع لم تكن تلك هى الصلاة السومرية الوحيدة التى وصلت إلينا، بل هناك مزيد منها موجه إلى عدد آخر من آلهة ذلك العصر، أما فى مصر التى تعددت فيها الآلهة أيضا، رغم أن الديانة المصرية القديمة متفردة من حيث عمق الإيمان وخصوصية العلاقة بين العابد ومعبوده، وبشكل أوضح شمل الإيمان المصرى القديم غيبيات وبعث وخلود توحيدى إلى حد بعيد وأشمل من غيره، بل يمكننا أن ندعى أن المصرى القديم أقام مع إلهه – إضافة إلى التضرع والاحترام – علاقة صداقة متينة واتصال يومى لا ينقطع، وقد سجل المصريون أيضا صلواتهم، ومن حسن الحظ أن بعضها وصل إلينا شبه كامل مثل "متون الأهرام" التى تعود إلى عام  2400  قبل الميلاد، وكذلك صلاة إلى إخناتون والتى جاء فيها:

"أنت تظهر في الأفق،

أيها الشمس الحي،

 
وعندما تشرق، تملأ كل الأرض بجمالك

يا من تمنح الحياة لكل شيء، وتغذي البشر مثل الأم"

أيضا اكتشف الباحثون رسوما على جدار كهوف "بيمبتكا" فى الهند، رجحوا أنها تعود إلى عشرة آلاف عام من اليوم، ومع ذلك ظهرت رسوم مصرية أخرى تعود إلى 3300  عام قبل الميلاد، أى أكثر من خمسة آلاف عاما من الآن، ويظهر من خلالها طريقة تعبد النساء بالرقص أو بأداء " حركات طقسية" ترفع فيها المرأة بطنها نحو الآلهة لتبارك جنينها، ثم تميل بصدرها لمباركة حليب الرضاعة مع ثبات القدمين.

فى هذه الحالة نحن لا نتحدث عن الحضارة الأقدم، بل عن "طقوس العبادة القديمة"، لماذا؟ لأنها بوضوح ترتبط بالفن المعاصر، إذ يبدو أن كل تقدم حققته البشرية ارتبط ونشأ من مصدرين اساسيين هما : الدين وطقوسه، والعسكرية وآلياتها، اليوم نتحدث عن علاقة الأديان بتطور الفنون، وخاصة الغناء، الذى بدأ بالإلهى والقدسى، ليتحول الصوت الإنسانى إلى وسيلة التعبد بالآلهة، مصحوبا بشعائر دينية تؤدى فى المعابد، والتى ترك الأقدمون لنا آثارها، وكلمات الابتهالات، والحركات الطقسية تلك التى بوسعنا أن نراها فى عادات القبائل البدائية حول العالم فى أفريقيا، أستراليا، وأمريكا الجنوبية، وكذلك مع نظام "الكهانة" فى أديان وضعية منتشرة بشرق آسيا.

 

الغناء والرقص فى الأديان القديمة:

لن يفيد الإقرار أو الإنكار فى تأكيد أو دحض طقوس التعبد لدى أبناء الحضارات الغابرة، فعلم الآثار أكد لنا بما لا يدع مجالا للشك أن الموسيقى والرقص والغناء كانت طقوس تعبدية تباينت من حضارة إلى أخرى، وعلى سبيل المثال فى معبد "حتحور" وهو إله الحب والموسيقى والبهجة فى الديانة المصرية القديمة، أقيمت الصلوات مصحوبة بغناء طقسى يتلوه الكاهن بصوت مميز ويردده بعده جموع المصلين، بعض هذه الصلوات صحبها ضرب على الدفوف والتصفيق، والغناء أما "خادمات" أو راهبات المعبد فكن يقمن برقصات طقسية معبرة عما يطلبه المصلون، مثل نزول المطر، أو نماء الزروع، أو مباركة الأجنة والأطفال، وطبيعى أن يبحث الكاهن عن أفضل الأصوات التى تطرب "الآلهة" من خلال استحسان العابدين، بالطبع استخدم "رجال الدين" بعض الألعاب والخدع لإبهار الجموع والسيطرة عليهم، ومن الثابت أن كهنة مصر القديمة استعانوا بالحيل "البهلوانية" ليسحروا بها أعين وعقول المشاهدين، من بينها مثلا تحريك تماثيل الآلهة عن بعد عبر أسلاك دقيقة من الصعب رؤيتها، أو من خلال تحدث أحد الكهنة عبر أنبوب بصورة غير مرئية فيتخيل السامعون أن الصوت يأتى من السماء وأن الإله يتحدث إليهم، فتنتابهم رعشة الإيمان والتصديق والطاعة، وفى مقابل ذلك يحصل  الكاهن دوما على امتيازات غير محدودة، وثروات واسعة، وعبيد يرغبون فى زيادة مستوى إيمانهم طمعا فى حياة رغيدة على الأرض وكذلك فى السماء، وبالتالى يسهل تسخير الشعب لخدمة أهداف المعبد والقصر، تكنيك قديم مستمر للسيطرة وتوجيه الرأى العام.

وساطة الشامان والرقص التعبدى:

من المثير أن كثيرا من القبائل البدائية فى استراليا، وأمريكا الجنوبية، وبالطبع فى أفريقيا جنوب الصحراء، ما زالت كثير من الشعوب تتعبد إلى "الطوطم" وهو حيوان أو نبات ألهه الشعب على مدار تاريخه، قد يكون ثعلبا أو قردا أو أى مخلوق آخر، يعتقد فى قوته الروحية المؤثرة والمستجيبة والقادرة على الشفاء أوجلب الثروة، أو المعاونة فى الصيد وفى تخصيب النساء، والزروع واستجلاب الغيث، يتم التقرب إليه من خلال ساحر القرية أو شامان القبيلة، وهو أيضا شخص ذو مواصفات خاصة، يقدر على الاتصال الروحى بالطبيعة وموازنة القوى الكونية، وتسخيرها لخدمة الملك والشعب.

يؤدى الشامان طقوسه سرا وأيضا أمام العامة الذين يشاركونه فى أداء الحركات الراقصة وفى الغناء الطقسى، بحيث يندمج الساحر والمسحور فى حالة وجدانية تشبه "الغيبوبة" تؤدى قطعا إلى النشوة والتطهير وتضيف شعورا بقوة الجماعة وضرورات الإيمان، ومنها تتخلق الأسطورة وتحلق صانعة "وعيا جمعيا" يوحد المؤمنين ويربطهم بمصير واحد، وبالطبع يخلق "هوية" وطنية ودينية، وهى حالة يخلقها شخص موهوب قادر على جذب الجماهير وربطهم به، خاصة إذا تمكن بالفعل، أو صادفت صلاته نوعا من الاستجابة، كهطول المطر أو شفاء مريض، أو وفرة مواسم الحصاد.

 

وظيفة الإيقاع فى العمل الجماعى:

يبدأ "النظم الإيقاعى" مع ضربات القلب، حركة الأمواج، عدو الجياد، والمدهش أن الأطفال الرضع يستجيبون للإيقاع وللأصوات المنغمة، ومع اكتشاف قدرتهم على الحركة والوقوف والمشى يأخذون فى الإتيان ببعض الحركات والأصوات التى تشبه الرقص والغناء، وهى تنم عن سعادتهم، فالرضا إيقاع، أما الغضب حتى فى هذه السن الصغيرة يعنى العشوائية والانفلات، الإيقاع صلاة والصراخ انفلات.

العمال والجنود والبحارة وجماهير الحفلات الموسيقية ومباريات كرة القدم، والمصلون وسامعو الغناء الكورالى الكنسى، ومتابعو كبار قراء القرآن الكريم؛ جميعهم يحتاج إلى الإيقاع ذلك الذى يعبر عن وحدتهم وانسجامهم معا، يضبط مشاعرهم، وينسيهم الفردية ويربطهم "بالجمع"، أيضا يدفعهم إلى التركيز ويؤجج العاطفة ويساعدهم على التذكر، وحتى يضبط اتجاهات الحركة لديهم كمجموعة بشرية كبرت أو صغرت.

قد يبدأ الإيقاع من التصفيق المنتظم، الطبل، الصوت الإيقاعى وترديد الجماهير، يحدث ذلك فى الصلوات الجماعية، وغناء الكورال وهتاف الجماهير فى ملاعب الكرة وآهات الاستحسان وأنات الغضب، ومن المعروف أن كبار قراء القرآن المصريين فى "دولة التلاوة" يستخدمون المقامات الموسيقية ويوظفونها عاطفيا للدلالة على معنى الآيات.

 

 

 

من المعبد إلى المسرح:

من البديهى أن يكون هناك على الدوام "عبدا آبقا" يخرج على الجموع ويتبع هواه، حتى وإن لم يع ذلك فى البداية، وقد نختلف حول هذه الرؤية، لكن طقوس الفن ترتبط بطقوس العبادة، نشأ كل منهما من الآخر وتأثر به، المتدينون انضموا إلى الركاب خلف قائد روحى، والذين وجدوا الروحانية فى الخروج عن المتبع، أصبحوا رسلا للفن بمختلف اتجاهاته، اكتشفوا فى أنفسهم طاقة أكبر من توظيفها فى اتجاه واحد، وقدرة أكبر على التفرد والإبداع، وقدرة لا محدودة تمنحهم الحرية والمتعة والتطهر وتخلق حولهم مريدين وأتباع من نوع آخر، وكأن الإنسان اتحد مع السماء وخرج عليها فى آن، جعل الدين عمدا يحفظ إتزان البشرية ويضع لها قواعد وأطر تمنع الانفلات وتحفظ المجتمع من الشرور، تنذر بالثواب وبالعقاب فى الحياة الأخرى، وفى ذات الوقت تمرد الإنسان نفسه وخرج عما آمن به لينتج "قوى روحية" من طراز آخر تسير فى أى اتجاه يدفع الحياة إلى التقدم والاكتشاف، فى صراع دائم بين الممكن والأكثر إمكانا، وهكذا خرج الصوت المقدس من المعبد إلى المسرح، وفى كلا المكانين صنع "الصوت" اتصالا روحيا شفيفا يحس ويسمع ويرى، ويقود التطور ويرسخ الوجود البشرى على هذه الأرض عبر التدافع بين ضرورات الإيمان وحتمية الفن واستنساخ كل منهما من الآخر.

 

اللوحة الرئيسية: الغناء لمريم - القرن ال    18الإيطالى باولو مارتيز