توحيدة المصرية: أول سيدة تغنى بدون حجاب ونردد إرثها الغنائى دون أن نعرفها

شذى يحيى
توحيدة المصرية: أول سيدة تغنى بدون حجاب ونردد إرثها الغنائى دون أن نعرفها


شذى يحيى

تتحفنا الفنانة التشكيلية شذى يحيى؛ الباحثة والمؤلفة فى تراث الفن المصرى الحديث والمعاصر بمقالاتها النشطة شديدة الأهمية عن "الفن والفنانين المنسيين"، قدمت للمكتبة العربية واحدا من أمتع الأبحاث التراثية فى كتابها " تاريخ الهشك بشك" واليوم ننشر مقالها هذا، مساهمة منا فى توثيق أعمالها. كافيين آرت نيوز

 

"وحوي يا وحوي إياحة، بنت السلطان لبسة قفطان إياحة، لبسة أحمرى، لبسة أخضرى إياحة، لبسة جبة محنجلة لحد الركبة إياحة..."

 

هكذا كانت تردد الأصوات في ليالي القاهرة القديمة، حيث سطع نجم "الست توحيدة"، تلك المطربة الرائدة التي سبقت زمانها، وأثرت في تاريخ الأغنية المصرية في بدايات القرن العشرين. كان لها "شنة ورنة"، ولم يبقَ لنا منها سوى أوراق في سجل محكمة المواريث وكتاب "طقاطيق الست توحيدة المغنية الشهيرة في ألف ليلة وليلة"، الذي طُبع عام 1924 في مكتبة سوق عكاظ المصرية بشارع محمد علي.

 

من لبنان إلى القاهرة:

 

وُلدت "لطيفة إلياس فخر" في إحدى القرى اللبنانية، تحديدًا في "دير القمر" من أعمال "بيكاسين"، أواخر القرن التاسع عشر. كان والدها، إلياس فخر، محبًا للطرب، لكنه لم يكن متحمسًا لاحتراف ابنته الغناء. وعندما اكتشف أنها تغني لنساء القرية، حاول إثناءها عن ذلك، حتى إنه طلب من والدتها أن تسقيها شرابًا يُفسد صوتها، لكن الأم خدعته وأوهمته بأن الفتاة تناولته، لتستمر فى الغناء سرًا.

 

بعد وفاة الأب، ضاقت سبل العيش بالأم وأبنائها، فقررت الانتقال إلى القاهرة عام 1900، حيث التحقت الأسرة "بجورج داخون"، وهو أحد أبناء قريتهم؛ الذي تمكن من تحقيق نجاحًا لافتا في المسرح المصري بعد أن غير اسمه إلى "كامل الأُصلي".

 

التحول إلى توحيدة:

 

تبنّى جورج موهبة لطيفة، وغيّر اسمها إلى "توحيدة"، محولًا إياها إلى بطلة عروضه المسرحية، حيث اكتسبت شهرة واسعة، قبل أن تدب الخلافات بينهما، فانفصلت عنه وأسست عرضها الخاص "كازينو توحيدة" ، لتصبح أول ممثلة تحاول أن تكون بطلة عرض كوميدي في مصر.

 

في تلك الفترة، كان ملهى "ألف ليلة" يبحث عن بديلة لمغنيته الأولى، فنجح صاحبه، الخواجة "مانولي"، في ضم توحيدة إلى فرقته، حيث بدأت بالغناء ثم تعلمت أصول الطرب على يد كبار الموسيقيين مثل محمود البولاقي وعطية محمد وعوض الجرجاوي. وخلال ستة أشهر فقط، أصبحت نجمة الصالة الأولى، وخصص لها تخت خاص، إلى جانب حراس وعربة يجرها حصانان.

 

التألق والزواج من مانولي:

 

أراد مانولي الحفاظ على استثماره، فتزوج توحيدة لضمان بقائها في الملهى. في البداية، أدّت أغنيات عبده الحامولي وغيرهم، ثم بدأ القصبجي في التلحين لها، فأبدعت في غناء:

 

"الحب له أحكام"

 

"حنيني في كعوب رجليا"

 

"إن كنت شاريني ما تتقلشي"

 

"وحوي يا وحوي"

 

"ياما القمر عالباب"

 

وسرعان ما أصبحت المطربة الأولى فى ملهى مانولى، لا تتغيب عن المسرح إلا في الحفلات الخيرية التي كانت تقيمها بدار الأوبرا.

 

التحرر والريادة:

 

في عام 1905، كانت توحيدة أول مطربة مصرية تصعد إلى المسرح سافرة، مكشوفة الوجه، دون أن تغني من خلف ستار، ارتدت الملاءة الحرير والفساتين المطرزة بالذهب، فتهافت الجمهور على صالتها لمشاهدة "الصرعة الجديدة"، ازدهرت شهرتها خلال الحرب العالمية الأولى، عندما أُغلقت العديد من المقاهي وصالات الرقص، لكنها برغم ظروف الحرب اصرت على أداء فقرتها كالمعتاد، ما جذب إليها جمهورا جديدا، فأصبحت علامة من العلامات الفنية أثناء الحرب العالمية الأولى، ليس فى مصر فقط، بل فى كل الشرق العربى.  

 

رغم نجاحها، رفضت توحيدة تسجيل أغنياتها على أسطوانات، مُصرة على أن "الغناء الحقيقي يكون في الأماكن المفتوحة، وسط الجماهير"، فكان عنادها سببًا في نسيان صوتها بمرور الزمن.

 

الأفول والإرث:

 

مع وفاة مانولي وإغلاق ملهى "ألف ليلة" بسبب صراعات الورثة، غادرت توحيدة الأزهرية، حيث ظلت ملكة المسرح لأكثر من 25 عامًا، ووجدت نفسها فى صراع قانونى للحصول على نصيبها من الميراث، ثم حاولت إعادة مجدها عبر افتتاح "كازينو البيجوبالاس"، لكنها لم تستطع مجاراة جيل المطربات الجديد مثل نجاة علي وفاطمة سري.

 

أنهكها المرض، فأغلقت الكازينو ولزمت بيتها حتى توفيت عام 1933، ورفع ورثتها، أبناء نقولا فخر، قضية للمطالبة بنصيبهم في التركة أمام المحكمة المختلطة.

 

الفن المنسي:

 

رغم أن توحيدة لم تسجل أغنياتها، إلا أن بعض كلماتها ظلت محفوظة بين سطور الكتب:

 

"الفُل والياسمين والورد والنرجس الذهبي الفتّان

يشبه أوصاف حبيبي لما ييجي في البستان"

 

حكاية توحيدة ليست فقط قصة فنانة، بل قصة امرأة سبقت زمانها، واجهت التقاليد، وصنعت مجدها الخاص، قبل أن يُطوي اسمها في صفحات النسيان.