نداءعالمى للسلام: هل تنجح أصوات الفنانين فى وقف الحروب المعاصرة؟

تامر صلاح الدين
نداءعالمى للسلام:  هل تنجح أصوات الفنانين فى وقف الحروب المعاصرة؟

مارلون براندو- رفض جائزة الأوسكار محتجا على حرب فيتنام

 


لا يمكن الادعاء إننا أدباء وفنانون، ذوى حس مرهف، نبحث عن الجمال وننتجه، نحاول عبر الفن أن نطهر البشرية من دنس الطمع والتسيد وشهوة الامتلاك والسيطرة، لنتمتع بالحرية والجمال وإدراك جوهر الأشياء، وإننا نزرع التسامح كبذرة فى داخلنا تنمو لتعم الكون، دون أن نتحد فى دعوة عالمية بكل اللغات، لكل الشعوب، تنشد السلام وتؤطر لقرن كامل من التسامح والتفاهم كبشر لا كحيوانات برية تتقاتل لتحدد نطاقها، أو بحثا عن الطعام والجنس، ومن السذاجة أن يظن أحدنا – حتى كاتب هذه السطور- أن دعوة واحدة مهما بلغت قوتها قد تؤدى إلى نزع فتيل الصراعات واستخدام الإنسان لقوة التفاوض لتحقيق غاياته السياسية والعسكرية، خاصة عندما نقتنع بأن الحرب ذاتها هى "سياسة بالنار" بعدما تفشل أو تصطدم وسائل الاقناع السلمى بين الدول المتنافسة ما يؤدى إلى المواجهة المسلحة.

رحلة الإنسان مع العنف: من الحجر إلى الذكاء الاصطناعى:

ليس أدل على ذكاء الإنسان وفرادة عقله، من قدرته على تعزيز قوته عبر التاريخ، ومن المدهش أننا لم نتوقف يوما عن تطوير السلاح، بل وضعه "الرجل" على قمة أولوياته، وبدأت البشرية تصنيفها للقوة الإنسانية فى عصرنا منذ أن استخدمنا قدراتنا المجردة فى القتال والصيد، فكانت أول درجات الترتيب فى السلم التصاعدى لوسائل الدفاع والقتال هى؛ "قوة الرجل" أو Man power والتى توقفت على استخدام الإنسان لقدراته البدنية فى القتال والكر والفر والطرد والجر والدفع، والتفكير فى استغلال القوى والموجودات الأخرى فى الطبيعة، لكن هذا لم يكفه، فاكتشف الحجر وشحذه، ثم اخترع الفأس والرمح والسهم والمقلاع، فصارت قوته تسمى " القوة البدائية" أو Man offer power أو القوة التى أضافها الإنسان لنفسه وقدمها على قدراته الذاتية، ويبدو أن الطبيعة ساعدته ليدمرها بنفسه، عندما منحته الفرصة لاكتشاف البارود، وللعجب قدمت لنا الحياة مزيجا قاتلا من الكبريت، الملح الصخري "نترات الصوديوم" و فحم الخشب، والذى اكتشفه الصينيون فى القرن التاسع الميلادى، ومما يزيد العجب أنهم استخدموه بداية فى الألعاب النارية وفى الطقوس الدينية فى المعابد، قبل أن يحولوا تلك الملهاة إلى سلاح قاتل أثناء مقاومتهم لهجوم المغول على أراضيهم بعد اكتشافه بخمسة قرون كاملة، انتقل بعدها كأداة قتالية إلى أوروبا ومنها إلى العالم، واستخدم فى القارة العجوز لأول مرة فى معركة "كريسى" سنة 1346 خلال حرب المئة عام التى دارت بين إنجلترا وفرنسا، وصنفت هذه المرحلة تحت إسم "الإنسان الخارق" أو "القوة المسلحة الخارقة" Man super power.

بالطبع لم يكشف التاريخ عن وجه القاتل الأول باستخدام البارود، ولا عن اسم القتيل، ومن المؤكد أن صرعى البارود كانوا أضعافا مضاعفة عن ضحايا القتال بالسيف والأدوات الأخرى المعاصرة له، هؤلاء القتلى بكل تأكيد هم من الجنود البسطاء الذى لا يعرف أغلبهم لماذا يقاتل؟ ولا يهتم أحد بتسجيل أسماءهم وتضحياتهم.

 هل توقف الإنسان هنا؟ بالطبع لا، بل طور القذائف المدفعية كما وكيفا لتصبح أكثر قدرة على الفتك والدمار، فاخترع الصاروخ واستخدم تكنولوجيا عصره لتطوير إمكانياته العدائية ووضعت هذه المرحلة تحت مصطلح  Man Ultimate Power أو "قوة التفوق التكنولوجى"

مدهش، أليس كذلك؟ ثم استخدم "الرجل" كل منجزات العصر الحديث فى سباق للتفوق العسكرى لا يمكن أن ينتهى، فطوع "الرقمنة والذكاء الاصطناعى" واستخدمهما لاختراع وتطوير الأسلحة الذكية وهنا نصل لمرحلة  Man Digital Power التى نتحكم بها عن بعد ونوجه بها الأسلحة لتصيب أهدافها بدقة نسبة الخطأ فيها شبه منعدمة! إنه الرعب فى أكثر صوره التقدمية!

ومن المثير أن الكرة الأرضية لم تعد تكفى طموح القادة العسكريين وعلماءهم، بل لقد ذهبوا مع الرئيس الأمريكى دونالد ريجان تحديدا فى ثمانينيات القرن الماضى إلى حرب الفضاء خارج الغلاف الجوى بكليته، وهو عصر Space power حيث أصبحت الأقمار الصناعية سلاحا لجمع المعلومات وتحديد الأهداف ومراقبة التحركات العسكرية وبذلك صار الفضاء "ساحة حربية" جهز بأسلحة مضادة للأقمار الصناعية، فى حرب لا منظورة آثارها كارثية.

سلاح الشمس يضئ ليل باريس:

عقب تفكيك الاتحاد السوفيتى، ذكرت تقارير صحفية عديدة أن روسيا وجهت مرآة فضائية أو "سلاح شمسى" أضاء الليل الفرنسى الساحر لحوالى أربعة ساعات إضافية، وهو ما اعتبره الغرب دليلا على التفوق التكنولوجى الروسى وتهديدا مبطنا لدول حلف الناتو من مغبة التفكير فى غزو أراض روسية أو التقليل من قدراتها العسكرية، وفى المقابل نشرفى وقته تقارير صحفية أخرى تشكك فى الواقعة وتصفها باللامعقولة، لكن واقعنا اليوم يؤكد أن ثمة "سلاح شمسى Solar Radiation Management - SRM" يمكن للدول العظمى استخدامه فى تسخين أو تبريد المناخ فى مناطق معينة من العالم، وكذلك استخدام "الهندسة الجولوجية Geotechnical Engineering" فى إثارة العواطف والبراكين وتوجيه الأمواج والأمطار وخلق الزلازل والفياضانات فى مناطق محددة من العالم، أضف إلى ذلك كل من "الحرب الكيماوية  Chemical Warfare والحرب الجرثومية Biological Warfar " وهى حروب وبائية تحمل صفة السرية ولا يتم اكتشافها إلا بعد فوات الأوان.

إذن حاصرت قوة الإنسان الكوكب، ولم يكتف المتحاربون بالأرض وبالبحر والسماء، فذهبوا إلى الفضاء، وسطوا على أشعة الشمس ووضعوها فى مدافعهم، أيضا هددوا جوف الأرض وبحارها وصحاريها وقاراتها، دون رادع، فمن يملك العصا الطويلة سيفعل ما يشاء.

 

Napoléon III à la bataille de Solférino


معركة سولفيرينو تطلق الصليب الأحمر الدولى:

تقود الصدفة تاجرا سويسرا هو جون هنرى دونان إلى وسط معركة سولفيرينو التى دارت سنة 1859على الأراضى الإيطالية بين جيش الإمبراطورية النمساوية من جهة، وبين القوات الإيطالية المتحالفة مع فرنسا لتحرير إيطاليا، تلك المواجهة التى نتج عنها عشرات المئات من القتلى وآلاف الجرحى من كل فريق، كانت جثث الجنود والضباط، وأجساد المصابين من الفريقين ملقاة على حواف الغابات والحقول، وبين طرقات المدن، ارتفع الأنين بلغات مختلفة، ولم يبادر أحد لإنقاذ ما تبقى من أجساد لا تزال الروح تسرى فى عروقها، توقف دونان متأثرا بما يرى، وحاول إنقاذ الجميع دون تفرقة، طرق أبواب القصور والبيوت، استأجر من ماله الخاص حظائر الحيوانات، جمع متطوعين من الفلاحين لا يفقهون شيئا عن التمريض، ناشد النبلاء أن يرسلوا زوجاتهم وبناتهم وخادماتهم ليكونوا عونا له، وأرسل لاستقدام كل طبيب وممرض، طلب الأدوية وأدوات الجراحة والمطهرات والضمادات من كل مكان يمكن توفيره، وأنفق من ثروته مبالغ طائلة، ليداوى ويحفظ ما تبقى للجنود من أرواحهم وأعضائهم، صنع أسرة وحمالات من أغصان الشجر، وجهز أسرة وفرش من التبن والأعشاب، ذبح ابقارا وعجول ليطعم هذا العدد الهائل من العمال ومن الجنود، وجد المصابون أنفسهم جنبا بجنب إلى جوار أعدائهم، ومن المفارقات أنه نشأت بينهم مودة وصداقة عندما أخذوا فى التشافى واضطروا لإجراء حوارات يقطعون بها الوقت.


جون هنرى دونان فى أيامه الأخيرة وشعار الصليب الأحمر والهلال الأحمر 


ظل دونان فترة طويلة فى إيطاليا متجاهلا تجارته وأعماله، يدفعه حسه المرهف ومشاعره الإنسانية لإتمام مهمته التى فرضها على نفسه، وعندما عاد إلى سويسرا، ألف كتابا بعنوان "Un Souvenir de Solférino" والذى ترجم إلى العربية بعنوان "تذكار سولفرينو" وفيه روى دونان تجربته مع الإنقاذ واقترح إنشاء منظمة دولية لمساعدة العسكريين والمدنيين فى مناطق النزاع، نتيجة لجهوده ودعمه وتمويله، أسس الصليب الأحمر الدولى فى جنيف عام 1863 واعتمد كلجنة دولية محايدة تقدم المساعدات الإنسانية فى زمن الحرب، ورغم حصول دونان على جائزة نوبل للسلام عام 1901 إلا أن "الصليب الأحمر" عانى مشاكل فى التنظيم والتمويل أدت إلى إفلاسه ، وانصراف الأصدقاء عنه، فأصيب بمرض نفسى وتوفى وحيدا منكسرا، فى مصح عقلى بمدينة هاريسا عام 1910، وكأن الإنسانية التى ساهم فى إنقاذها، أدارت لها ظهره بعد أن قدم إليها كل ما يملك من مال ووقت وجهد وأفكار، أليس شيئا محزنا؟ إن أقل ما نقدمه إليه اليوم هو تحية إلى روحه السامية وسلام إلى ذكراه الملهمة.

 

أعمال أدبية وفنية ترفض الحروب:

دونان هو أول رجل مسجل تاريخيا اتخذ خطوات عملية لوقف الحروب والتقليل من آثارها الوحشية، لكن سبقه ولحقه كتاب وفنانون سخروا أعمالهم لكشف فظائع الحروب، وشحذ الروح الوطنية وإعلاء قيمة العقل على استخدام السلاح، أشهرهم الكاتب الروسى ليو تولستوى مؤلف رواية "الحرب والسلام" التى تتناول تأثير الحرب النابوليانية على بلاده وعلى الشعوب الروسية، ومنهم إرنست همنجواى فى روايته العظيمة " وداعا للسلاح" التى تظهر تأثير الحرب العالمية الأولى على مشاعر الحب والوجد والفراق، ورواية " أريك ماريا ريمارك All Quiet on the Western Front" التى ترجمت إلى العربية تحت عنوان " أمهات الشهداء" وتصف هى الأخرى مشاعر جندى شاب شارك فى القتال أثناء الحرب العالمية الأولى، ولا يمكننا أن نغفل عشرات الأعمل الأدبية الأخرى والتى من بينها مثلا لا حصرا: "الصخب والعنف" لويليام فوكنر وتصف ويلات الحرب الأهلية الأمريكية وتأثيرها خاصة على عائلات جنوب الولايات المتحدة الأمريكية، و رواية "1984 " لجورج أورويل التى تتناول كوارث الاستبداد وشناعات الحروب المستقبلية، إضافة إلى رواية ثانية لنفس الكاتب هى " تحية إلى كتالونيا" وبرغم أنها عبارة عن تقارير مراسل حربى للصحف البريطانية، إلا أنه وبسبب أسلوبه الأدبى ووصفه لمشاعر المتحاربين ومعاناتهم خلال الحرب الأهلية الإسبانية فقد صنفت ضمن الأعمال الأدبية، "القارئ" لرنهارد شلنك وتتناول الجوانب الأخلاقية والإنسانية خلال الحرب العالمية الثانية، خفة الكائن الذى لا يحتمل لميلان كونديرا، وفيها يرصد المؤلف فظاعة الاحتلال السوفيتى لتشيكسولوفاكيا، كذلك رواية "الحرية أو الموت" لنيكولاس كازنتزاكيس التى تجسد مقاومة شعب كريت للاحتلال العثمانى، وقد شارك الكتاب العرب بعشرات الروايات العميقة التى تجسد الحرب والعدوان وتداعيات ذلك على الشعوب منهم: روايتا رجال فى الشمس و عائد إلى حيفا لغسان كنفانى، وتصفان مشاعر الفلسطنيين ومأساة اللاجئين عقب حرب 48 ، والحرب فى بر مصر ليوسف القعيد، شرق المتوسط لعبد الرحمن منيف، الطريق إلى عين شمس لبهاء طاهر، قصة مدينة لمحمد عبد الحليم عبدالله وتصف حال أهالى مدن قناة السويس عقب العدوان الثلاثى على مصر، والنوم فى حقل الكرز لإبراهيم نصر الله وتقدم نموذجا للمقاومة ضد الاحتلال ولكن بروح إنسانية.

وبرغم أن معظم الأعمال الأدبية وصفت وجسدت ويلات الحروب وأهمية المقاومة وعبرت عن موقف الكتاب والشعوب من الاحتلال والديكتاتورية والاستبداد، إلا أن المبدعين لم يكتفوا بذلك.

 

لوحات وموسيقى تدين العنف:

غيرت الحرب الأهلية الإسبانية مشاعر التاريخ، خاصة فى أوروبا، التى ساهم كثير من شبابها فى الانضمام إلى فصائل إسبانيا المتناحرة، نفس هذه الحرب التى جسد جانبا من مآسيها الرسام الشهير بابلو بيكاسو فى لوحته جرينكا التى رسمها سنة 1937 والتى تصور فظاعات قصف القرية الإسبانية وما نتج عنه من مآسى، قبل ذلك التاريخ وتحديدا فى 1814 رسم فرنسيسكو جويا لوحته الشهيرة "ثالث من مايو 1808 " والتى عبرت عن مقاومة الإسبان للاحتلال الفرنسى ومآسى الإعدامات الجماعية التى وقعت على المواطنين الإسبان، وهذا غيض من فيض، كذلك ألف الموسيقيون حول العالم سمفونيات تعبر عن رفضهم للحروب عبروا خلالها عن الويلات التى تتعرض لها الشعوب، منها: السمفونية السابعة "ليننجراد" لدميترى شوستاكوفيتش التى أتمها عام 1941 ، وقداس الحرب لبنجامين بريتن والتى قدمها لجمهوره فى عام 1962 والتى تمزج بين الشعر والقداس الكنسى تمجيدا لأرواح ضحايا الحربين العالميتن، وكذلك لحن "نشيد السيف" لرياض السنباطى والذى يعد من الألحان العربية الملهمة لحماس الشعوب وتطلعها إلى إنهاء الحروب والعنف فى المنطقة.

كل ما تقدم هو مجرد أنموذج بسيط لرفض الملهمين للحرب، ومع ذلك وبرغم منه نجد فى عصرنا الحالى مئات الشخصيات العامة التى أعلنت رفضها للحروب وللاستعمار وللتفرقة العنصرية فى بلادها وضد حكوماتها وكذلك كموقف عالمى يدعو للسلام، من بين هؤلاء مثلا: الممثل الأمريكى الشهر مارلون براندو، والممثلة الأمريكية جين فوندا الرافضان للحرب الأمريكية على فيتنام، حتى أن براندو رفض استلام جائز الأوسكار التى منحت له عن أحد أدواره، نفس الموقف اتخذه الملاكم الأسطورى محمد على كلاى رافضا الاشتراك فى الحرب على فيتنام ما أدى إلى تجريده من لقبه كبطل العالم فى الملاكمة للوزن الثقيل، وكذلك حرمانه من خوض المباريات لمدة أربع سنوات، وفى قائمة الفنانين الرافضين للحروب روبيرت دى نيرو، وألتون جون وكثيرين غيرهما.

 

مبادرة كافيين آرت نيوز:

إذا كانت الأمثلة السابقة تشير إلى دعوات متفرقة عبر التاريخ الوسيط والحديث والمعاصر، رفضت الحروب والدمار، ورصد أو عبر أصحابها عن المآسى الإنسانية جراء التسيد والعنصرية والصدامات المسلحة، فإننا اليوم فى ديسمبر من العام 2024 نناشد كل أصحاب العقول النيرة، والقلوب الداعية إلى التسامح والتفاهم ونبذ العنف إلى إطلاق نداء إنسانى عالمى يشمل كل شعوب وحكومات الكرة الأرضية جمعاء نوجهه إلى القوى العظمى وأصحاب القرار فيها وفى كل بلاد العالم آملين أن ننعم بالسلام لمدة قرن كامل، تصمت خلاله المدافع، وتتنهى الحروب بين الدول، وتتقلص فيه الصراعات العرقية والإثنية، فى أفريقيا، آسيا، أوروبا، وأمريكا اللاتينية، نناشد الولايات المتحدة وروسيا وكل دول الاتحاد الأوروبى التى ذاقت ويلات حربين معاصرتين، وجنت أرباح السلام والأمن والاستقرار أن ينظروا فى المبادرة، وأن يتخذوا خطوات تنفيذية ليحمل لنا ربيع مارس 2025 ولو نذرا يسيرا من الأمل، نبنى عليه معا عالما جديدا يسمح بالأخذ بايدى شعوب العالم الأقل تقدما والأكثر معاناة إلى براح العلم والتقدم والإنسانية عبر المئة عام القادمة.