الخيل فى بيوت المصريين:تاريخ وجمال وفن ورياضة وثروة لا تقدر بثمن

تامر صلاح الدين
 الخيل فى بيوت المصريين:تاريخ وجمال وفن ورياضة وثروة لا تقدر بثمن

وجدان البربرى مع فرستها

فى "سهب باز" بآسيا الوسطى، أو ربما فى منطقة ما بين روسيا وأوكرانيا، روض البشر خيول السهوب الآسيوية حوالى عام 3500 قبل الميلاد، استخدمت أولا فى "جر" الأحجار والأشجار والأشياء الثقيلة التى استخدمها البشر فى هذا الزمان، قبل أن يتم اعتلاء ظهرها واستخدانها كوسيلة مواصلات وكسلاح ورمز للعزة والثراء، ربما فى هذا التاريخ القديم أو بعده بقليل عرف سكان السهوب جماليات الخيل واستخدموها فى إظهار مهارات رياضية وفنية واستعراضية، حولت هذا المخلوق القوى من مجرد "وسيلة" للإنتاج والحرب، إلى صديق ورفيق لا يمكن الاستغناء عنه، وبرغم كل التقدم الذى شهده العالم لا زالت الخيول جزءا من الثقافة والثروة والفنون البشرية.

خيول المصريون القدماء:

لم توجد الخيول فى الأراضى المصرية طبيعيا، بل جاءت مستوردة مع تجار، ومع غزاة، خاصة الهكسوس، وبطريقة فريدة تثبت دائما قدرة الإنسان المصرى على تطوير المنجزات الحضارية بصورة أكبر من قدرة أصحابها الأصليين، أضاف المصريون إلى الخيول ووإلى العربات الحربية قدرات وإمكانات مستحدثة، مكنتهم أولا من طرد الهكسوس والقضاء عليهم، ثم مكنتهم بعد ذلك من الانتصار على رعاة ومروضى الخيول الأصليين فى معركة "قادش" التى قادها رمسيس الثانى بنفسه، ومنذ ذلك التاريخ البعيد، نشأت وتطورت سلاسة من الخيل المصرى الذى يتصف بالذكاء والرشاقة وقوة التحمل والصبر والهدوء والدعة أكثر من أنواع أخرى كثيرة، وكأنه حمل "جينات" وأخلاق أصحابه المتواضعون صبرا، والصابرون تواضعا، القادرون دوما على استخدام أدواتهم استخداما أمثل، عندما تتاح أمامهم الفرصة أو تضطرهم الظروف إلى ذلك.

تاريخ الخيل المصرى:

اشتهر المصريون القدماء، خاصة الملوك بتسجيل حياتهم اليومية، معاركهم وانتصاراتهم، وحيواناتهم الأليفة، ومن بينها بالطبع الخيول، ورغم تأكيد العديد من المصادر وكذلك النقوش على المعابد أن الملوك وكبار رجال الدولة قد قاموا بحصرأملاكهم ودوابهم، بل وإطلاق اسماء بعينها على بعضها، إلا أن التاريخ لم يذكر لنا سوى صفات الخيول واستخداماتها فى المعارك والحروب، وفى الصيد وفى الرياضات والسباقات.

والشاهد أن رمسيس الثانى أطلق أسماءا وألقابا على خيوله، وكذلك قام بتصنيفها من حيث الجمال والقوة والسرعة والفحولة، وبرغم تأكيد عدد من الوثائق أن هذه الخيول حملت أسماء آلهة أو صفات تمجد فيها البسالة والشجاعة والإقدام، إلا أن أحد – على حد علمى- لم يتوصل إلى اسم محدد لأى جواد فى العصور المصرية القديمة.

ومع ذلك فإن أشهر الجياد التى حملت أسما مميزا خالدا هو حصان الإسكندر الأكبر Bucephalus" بوسيفالوس" وهو ليس حصانا مصريا، لكنه انطلق به من مصر وخاض به أشهر المعارك حتى إصابة كليهما فى معارك الهند.

أيضا ارتبطت الخيول بأسماء البلاد المقدسة، والحروب التاريخية العظمى فى قديم الزمان، ومن الواضح أن المؤرخين لم يهتموا كثيرا بكنيات هذه الحيوانات، برغم اشتهار المماليك بالفروسية وجمالياتها وفنونها وألعابها التى تعتمد على قوة ورشاقة وذكاء الخيل، إلا أن التاريخ – على حد علمى أيضا- لم يحمل لنا اسما معينا، باستثناء حصان عمر بن الخطاب الذى أطلق عليه "الصارم" وحصان خاالد بن الوليد الملقلب "بالبراق" وبالطبع "الأدهم" وهو جواد عنترة بن شداد.

الخيل كرمز وأداة شعبية:

تحضر الخيل كشاهد ومشارك فى كثير من الفعاليات الشعبية، ففى الأسكندرية، تبرز زفة "الحنطور" كتراث بين أبناء المدينة، وفى وقت ما من بدايات القرن الحالى، استبدلت عربة الحنطور الشعبية، "بالبنز" الفخم الذى كان باشاوات العصر الملكى يستخدمونه كوسيلة مواصلات سريعة لفردين أو ثلاثة على الأكثر، وفى بعض المناطق الشعبية التى يعمل أبناؤها بحرف ذات صلة بخيول "الجر"، مثل تجار الكيروسين الذين يستخدم بعضهم إلى اليوم عربات برميلية كبيرة يجرها حصان قوى ويدور بهم فى الطرقات وبين البيوت فيبيعوا لترات الجاز لربات البيوت اللائى يستخدمنه فى نظافة الملابس وتلميع الأرضيات وطرد الحشرات، هؤلاء يحرصون على توفير فرق تستخدم الأحصنة المدربة على الرقص مع نغمات الطبلة والمزمار، فى مشهد يقف له القاصى والدانى والغريب والقريب ليمتع عينيه برشاقة وقوة وجمال وذكاء هذه الخيول، التى يحرص أصحابها على تزيينها بداية من السرج والركاب مرورا بالشكمة واللجام، حتى أن منهم من يداوم على شراء أدوات أوروبية مستوردة لتزين الخيل أو عربات النزهة.

الجياد فى الفنون والآداب:

من شدة عشق الإنسان للخيل، وأهميته فى الواقع والخيال، جسد بعض الممثلين الشعبين، عرائس تشبه الخيل، أدوا بها أدوارا على المسرح تراوحت بين التراجدى والكوميدى، أيضا ومن أقدم الرسوم التى تركها الإنسان على جدران الكهوف هى رسوماته للخيول، وتطور الأمر فنيا وتقنيا فصارت رسومات وقصص تخلد الأحصنة عبر الزمان، ومن السهل أن نجد لوحات يتمثل فيها الفنان حصانا كرمز للدعة أوالرومانسية، القوة أو الشراسة، أو حتى يربطه برموز وشخصيات دينية كما فى الأيقونات المسيحية، أو يلحقه بشخصيات تاريخية فى السير الشعبية كما فى قصص عنترة بن شداد، أو أن يظهر فى الأفلام الحربية مثل وا إسلاماه والناصر صلاح الدين مثلا حصرا، أيضا تغنى الشعار بالخيل، ونحت تشكيليون كُثر تماثيل للخيول فى حالاتها المختلفة.

تجربة ذاتية مع "ياسمينا":

فرستى إسمها ياسمينا، اشتريتها من بيت هادئ يتسم أهله بصفات المصريين الهاجعين فى عمق الريف، فنشأت هذه الفرسة على المحبة والنشاط والترابط والرأفة، طيعة وحنونة، لا تلقى براكبها أرضا ولا تكبو به عمدا، ولا تجفل إذا دخلت فى أرض شوكية أو إذا صرخ فى وجهها طائر برى؛ اقتربنا من عشه دون قصد، كما أنها لا "تحرن" إذا وضعناها أمام العربة، بل تجرنا فى ثقة وسكون، وقد لا يصدق البعض أن الخيل يحمل سمات مربيه كما يحمل سماته الخاصة، فأخلاق هذا من ذاك.


الكاتب مع فرسته ياسمينا

لذلك تحمل ياسمينا صفات كلا من البيت المصرى الأصيل، والخيل المصرى الحر، الذى قال عنه أبو بكر ابن البدر البيطار فى كتابه الجامع عن الخيل "كامل الصناعتين" بعد أن صنفه سابعا من حيث ترتيب النسب والجمال، فأكد أن: "الخيل المصرى هو أفرهها -أى أنشط الخيول وأخفها وأكثرها مهارة-، ووصفها بأنها دقيقة القوائم، طويلة الأعناق والأرساغ، جيدة الحوافر، قليلة الشعر، حادة الآذان"

بداية تسجيل الأنساب:

ومن المدهش أن نعرف أن أول تسجيل مكتوب لنسب وأصول الخيل العربى عامة والمصرى خاصة تم فى مصر فى عام 1848 ميلادية، فى عهد الخديو إسماعيل، ومن يومها بدأ العالم فى تسجيل نسب الخيل فصارت شهادات الميلاد تذكر مثلا أن الفرس "نظير" هو أبن فرج وريحانة ثم يذكرون السلالة، وكان السابق على ذلك هو ذكر نسب الحصان إلى قبيلته فقط، وقد عمم هذا النظام فيما بعد على مستوى العالم.

ورغم اشتهار الخيول العربية بأفضل صفات "المرؤة" والجمال "والدلع" وحسن مظهر الجسد، إلا أن الخيل المصرى الخالص ينافس دائما على قمة أفضل الأنواع إذ تقدم مصر للعالم حوالى 4% من إجمالى الخيول العربية الأصيلة رغما عن أن أقدم مرابط الخيول المسجلة فى مصر لا يزيد عمرها على المئتى عام.

 نسب الخيل المصرى:

وقد حسمت الفارسة العالمية الراحلة وجدان البربرى الجدل حول نسب الأحصنة المصرية فى واقعة شهيرة كان بطلها هو حصانها "شركسى" الذى كان بلا نسب حقيقى ومع ذلك فاز بسباقات مهمة، فسجل فى "الواهو" -أو المنظمة العالمية للخيل العربية الأصيلة- ثم شطب لأنهم لم يجدوا له نسبا، وقد وقفت البربرى ضد ذلك الشطب مصرة على أنه إذا شطب "شركسى" من جملة الخيول الأصيلة فيجب أن تشطب أهم الخيول الشهيرة لنفس السبب أيضا، وقد زارها وفد أجنبى مسئول وقدم اعتذاره وأعاد تسجيل فرسها فى هذه المنظمة.

معلومات مثيرة:

 ومن الحقائق المدهشة أن الخيل المصرى الحر يمكن أن تجده فى كل قرية وأى مدينة مصرية، لكننا نتعامل معه معاملتنا مع القطط والكلاب البلدية، التى يسعى أثرياء العالم لإقتناءها مهما كلفهم الأمر، بينما نحن لا نلتفت لهذه الثروة القومية التى نجدها تجر العربات فى الطرق أو تحرث الأرض فى الأرياف. وقد لا يصدق الكثيرون أن الفلاح المصرى الذى يقتنى الخيل، يوفر له الطعام قبل أن يوفره لأبناءة أولنفسه، والمبرر أنه "حيوان أعجم" لا ينطق، ويبدو أن هذه الجياد تقدر تلك العناية، فتجد الأطفال الصغار يلعبون بين سيقانها فى باحات المنزل، كأن هناك لغة حقيقة متبادلة بين الخيول وأصحابها، تمكن كل طرف من فهم الآخر والاستجابة لمطالبه ورغباته.

المثير أن بعض هذه الخيول التى نعتبرها منخفضة القيمة تحقق مبالغ طائلة لأصحابها إذا إكتشفها فارس حقيقى، يعرف سمات "الفرو" الصغير ويدرك من مشيته أنه "رهوان" يصلح لسابقات ركوب الخيل، أو أن به "محاسن" كثيرة تؤهله للفوز فى منافسات "الجمال" التى تقام فى مصر وخارجها.

السكندريون وسباق العربات:

الشاهد أن المصريين اعتنوا واحبوا الخيل وحرصوا على وجودها فى بيوتهم منذ القدم، لكن يخبرنا المؤرخ الإنجليزى العظيم جون مارلو فى كتابه "الأسكندرية فى عصرها الذهبى" أن رياضة سباق العربات مورست فى المدينة كرياضة شعبية، لم تقتصر فقط على الملوك والحكام ووجهاء الدولة البطلمية، فعلى مدرا العصر الهلينيى دأب السكندريون خاصة فى أيام العطل وفى الاحتفالات الدينية والقومية على إجراء سباقات العربات، حتى أن القساوسة – عقب استقرار المسيحية فى مصر- كانوا يلقون عظاتهم يوم الأحد، ثم يذهبون للتسابق " والشجار" مع العامة خارج أسوار المدينة.

منافسة وفن وتجارة:

هذه الرياضة الشعبية استمرت مع السكندريين أكثر من غيرهم حتى عصرنا الحالى، ففى بعض الشوارع الواسعة المجاورة لحديقة الحيوان "النزهة" يحرص "الركيبة" و"العربجية" مساء يومى الخميس والسبت من كل اسبوع بداية من الربيع وحتى مطلع الشتاء، على "الجرى" فى سباقات بلا جوائز بينهم، حتى أصحاب "البنز" أو العربات العتيقة ذات العجلتين والتى تستخدم للوجاهة، يحرصون أيضا على إقامة سباقات فيما بينهم، تلك المشاهد هى نفسها المسجلة على جدران القبور البطلمية فى وسط المدينة الحالية، مباشرة إلى جوار طريق "السوما" أو شارع النبى دانيال الحالى، لكن يضاف إليها التفنن فى اظهار جماليات الجياد، وتركيب الأجراس الأصلية لها، وتزينيها بأدوات وأنسجة ملونة خاصة، إضافة إلى وجود فن حقيقى هو الرسم على ظهور وأعناق الجياد بماكينات الحلاقة، ليحمل كل فرس أو فرسة علامة فنية مميزة تظهر حب واعتناء صاحبه به.

بالطبع تشهد هذه المنافسات جانبا تجاريا مهما، إذ قد يرتفع سعر حصان أضعافا مضاعفة نظرا لقوته، أوسرعته أومحاسنه، والتى تتمثل فى "الجوارب" على سيقانه الأربع، وكذلك وجود "نجمة" بيضاء على وجهه.

أرقام وشواهد مصرية:

تشير الاحصاءات الأخيرة لوزارة الزراعة المصرية إلى وجود حوالى عشرة آلاف حصان من الخيل العربى الأصيل، منها حوالى 500 حصان فى محطة الزهراء لتربية الخيول التى أنشأها الملك فؤاد الأول عام 1928 للحفاظ على الخيول العربية واستيلاد أفضل سلالاتها، كما يوجد عدد كبير من "مرابط" تربية الجياد التى ينشأها الأثرياء ورجال الأعمال، حيث ترتبط الخيول فى الوعى الدينى للمسلمين بأنها "معقود فى نواصيها الخير" وهى مظهر للأناقة والمنعة، إضافة إلى أنها تجارة تدر الملايين على أصحابها.

لكن عدد الخيول الموجودة لدى المصريين البسطاء غير محدد سواء فى المدن أو فى القرى والأرياف، إلا أن بعض التقديرات تشير إلى تجاوز السلاسة الخيلية عدد 40000 "أربعون ألف" رأس مابين أحصنة وبغال وحمير.

 

جياد الخليج العربى:

والشاهد أن الأشقاء العرب وخاصة فى دول الخليج حرصوا منذ قديم الزمان على الحفاظ على سلالة خيولهم، وتحسينها وعدم الخلط بينها إلا فى أضيق الحدود ولأغراض الجمال والرشاقة والسرعة، لذلك لا يخلو بيت خليجى كبير من مربط للخيول يستوى فى ذلك الحكام والمحكومين، وبدون الخوض فى تفاصيل البيوت والأسماء فإن أحد الأمراء العرب يقتنى فرسا بلغ سعره مئتى مليون دولار، لكنه رفض بيعه، وقرر أن يستخدمه فى الإستيلاد حيث حٌدد سعر "الطلوقة" الواحدة بخمسة آلاف إسترلينى، وهو رقم كبير جدا خاصة إذا عرفنا أن أكبر مقتنو الخيول وأصحاب المرابط حول العالم قاموا بحجز هذا الفرس ليزوجوه فرساتهم الأصيلة لمدة ثلاث سنوات قادمة طمعا فى "نسب"مميز يعود عليهم بالثروة.

إقتناء الخيل وتربيتها إذن ليس مجرد مظهر من مظاهر الشرف والثراء، لكنه هواية وغواية تحقق لأصحابها الرضا أولا وتفتح أمامهم أبوابا واسعة للشهرة وللثراء، فإذا كنت ممن يقتنون حصانا فاحرص عليه لأنه ثروة حقيقية حتى وإن كنت تستمتع بمشاهدته فقط دون القدرة على تعلم الفروسية وإمتطاء ظهره.

ملحوظة: نشر جزء من هذا المقال سابقا فى موقع "البيت العربى للاستثمار" بقلم الكاتب نفسه.

 

المصادر:

 

  • "خيل مصر في العصور القديمة"، موسوعة تاريخية مصورة.
  • أبحاث علمية ومقالات وتقارير من الصحافة المصرية عن سلالات الخيول المصرية والعربية في الصحف والمجلات المتخصصة.
  • تقرير "إقتناء الخيل في العالم العربي"