هل حلَّت الجوائز الأدبية محل النقد؟

د. هشام مشبال
هل حلَّت الجوائز الأدبية محل النقد؟

 جوائز أدبية تعطى الكاتب ما لا يستحقه




  1.    د. هشام مشبال - المغرب         

                                                                               

   

إن الاعتقاد الراسخ لدى القراء، أن العمل الأدبي الذي يحصد جائزة، هو الأجدر بالقراءة والمتابعة النقدية أيضا. توجِّه الجائزةُ القارىء إلى العمل مثلما يوّجِه النقد الصحفي أو الأكاديمي أحيانا إلى مقاربته ومحاولة تفسيره وتلمس جماليته. لكن، ماذا عن النصوص الأخرى؟ النصوص التي تقبع في الهامش، تلك التي لم تشارك في المسابقات ولم تحصد الجوائز ولم تدخل القوائم الطويلة أو القصيرة، هل يُحكَم عليها بالنسيان؟

قبل سنوات، كان المعيار الحقيقي في تلقي الأعمال الأدبية وذيوعها هو النقد. يكتب الناقد المتمرس مقالا حول عمل معين فيتهافت عليه جمهور القراء متحفزين للقراءة والمتعة. وكان النقد في أغلب الأحيان لا يخضع للمجاملات أو مبدأ العلاقات أو الاستجابة للطلب. عرفت الساحة الثقافية نقادا كثيرين يتصفون بالنزاهة النقدية والعلمية. يحرصون على الموضوعية على نحو ما، يحرصون على الإبداع النقدي؛ وكان الهاجس الذي يؤرقهم هو إنتاج كتابة نقدية موازية للعمل سواء كان إبداعا أم نقدا.

اختفى أو يكاد يختفي النقد الموضوعي الذي يتابع الأعمال ويواكب الإنتاج الجديد، وحلَّ محلَّه نقدٌ مجامل يزكِّي نصا ويهمش نصا آخر، لنقل إنه نقد يُكتب "تحت الطلب" ووفق غايات مختلفة لا تضع في الحسبان القيمة الجمالية للنصوص. لم يعد الناقد حريصا على تفكيك العمل وتفسيره وتقريبه إلى القارىء بقدر ما أصبح حريصا على صناعة "شلّة" تزكِّيه وتحميه من التهميش. ولم تعد قيمة النص هي التي تثير مشاعر الناقد وتحفزه على الكتابة، بل أصبح الكاتب وصورته وموقعه في الساحة الثقافية وغيرها من المعايير غير الأدبية، هي التي تستدعي الناقد وتشكل منطلقه في الكتابة النقدية. يضطر الناقد في سياق هذا التحول إلى كتابة نقد غير إنساني، جامد وغير مهموم بالقيمة الجمالية، وغير قادر على الحكم على العمل بموضوعية. نقد لا علاقة له بعوالم النص وأسراره، يجمِّله بالقوة، ويوهم الجمهور بمزيته، يربطه بالواقع والتاريخ والنصوص وفق "كليشيهات" مكرورة تنطبق على أي نص. هكذا وُلد نقادٌ يحفظون ولا يبدعون، يكرِّرون ولا يجدِّدون، يملؤون المجلات والجرائد بالأفكار ذاتها فتتشابه النصوص.

لقد بدأ القارىء يفقد الثقة في الناقد ولم يعد يأبه لرأيه وتوجيهه. ولم تعد سلطة النقد هي المحفز على القراءة وتتبع الأعمال. وفي سياق هذه الهوة ظهرت الجوائز الأدبية بحمولتها المادية والدِّعائية. وجعلت الكتاب يتهافتون ويتسابقون لإحراز "اللقب" مؤمنين أن ذلك وحده سيضمن لهم الإنتشار وكسب دائرة أوسع من القراء. لقد حلَّت الجوائز محل النقد، وشكلت بديلا له في سياق تراجع النقد وتغيُّر وظيفته من المصارحة والكشف إلى المجاملة والثناء. كما ضمنت للكاتب طبعات مختلفة لنصه وترجمات متعددة ولقاءات وأسفارا في أنحاء من العالم. تراهن كل هذه الحوافز النفعية في ظاهرها على جعل الكاتب يحظى بقيمته التي يستحقها، وأن يخرج من الهامش إلى المركز. وفي سياق هذا البعد الاحتفالي بالكتَّاب ونصوصهم، شكّلت الجائزة ضرورة ثقافية وتشجيعية هامة.

بيد أن هذا الاحتفاء بالنصوص والكتاب وتحفيزهم، يقوم من جهة ثانية على مغالطات أخرى كثيرة قد تُفقد الجوائز معناها الرمزي التشجيعي لتحوِّلها إلى أداة تسهم في قتل الأدب والأدباء على السواء. لنقل إن الجوائز عوض أن تكون وسيلة، أصبحت غاية. وبدأ الكتاب يكتبون وفق مقاييس الجوائز ومعاييرها. يصنعون حبكات تتماهى مع السياقين السياسي والثقافي العام للمجتمعات. يراعون موضوعات يتطلبها سوق القراءة والتلقي. وأحيانا يسرعون في إنجاز نصوص لتقديمها إلى الجائزة. ومن المفارقات، أن تجد الكاتب الفائز هذه السنة لا يترشح عمله الجديد إلى القائمة الطويلة في السنة الموالية حتى لو اتصف العمل بالجدة والتميُّز. بل من الكتاب من يحتال؛ كأن يغير اسم روايته القديمة ويعيد طبعها باعتبارها نصا حديث الكتابة. أو يسرق نصا وينسبه لنفسه بجرأة تفوق التوقعات. الأمر نفسه ينطبق على الدراسات النقدية أو الفلسفية أو الاجتماعية أو الترجمات. لقد كشفت الجوائز عن تهافت شديد وهوس غير طبيعي لدى الكتاب. ولم يعد معيار القيمة هو المتحكم في المشاركة، بل لا يتعدى الأمر أن يكون ضربة حظ أحيانا. كل من كتب رواية أو كتابا نقديا أو جمع مقالات مشتتة في كتاب، سارع إلى المشاركة به على الرغم من إيمانه الشديد بأن منجزه لا يستحق، وبأنه يفتقد القيمة العلمية والجمالية. إنه يشارك إيمانا منه بأن الجائزة "ضربة حظ" لا علاقة لها بالتقييم الجمالي الموضوعي.

هل يعكس حجم المشاركات في الجوائز القيمة "العلمية"/ الفنية والأدبية لها أو للنصوص المشاركة؟ يبلغ عدد المشاركات في بعض الجوائز، حسب الإحصائيات، سبعمائة رواية، وفي أخرى مئتي رواية، وفي بعضها ثلاثمائة دراسة نقدية. هل يمكن قراءة جل هذه الأعمال في شهور قليلة والحكم عليها وتقديم استدلال على أحقيتها في الترشح أو الرفض؟ نصبح هنا أمام معضلة كبيرة متعلقة بعملية الإنتقاء. قد يكتفي المحكم بتصفح صفحات قليلة من العمل والحكم عليه انطلاقا من خبرته التاريخية في تذوق الأعمال. وقد يعتمد محكم آخر على باقي أعضاء اللجنة في القراءة والتقييم. ونصبح إزاء لجان مختلة؛ بعض أطرافها يتسمون بالجدية في حين يتصف آخرون بالتدليس.

تكشف الجوائز العربية عن اختلال حقيقي في عملية تذوق النصوص والحكم عليها. النص الذي يحصد جائزة يُقابَل بسلسلة من النقد أحيانا يصل إلى حد السخرية والتجريح. صحيح أن الجائزة تعبر عن ذائقة اللجنة أو بعض عناصرها بحكم عملية التصويت. لكن الاختلاف الجذري حول نص فائز يعكس عمق الهوة التي تعصف بالذائقة العربية. فكل الثناء هنا يقابل بالتحقير هناك، ويغدو القارئ العربي في حالة من التشتت والحيرة سببهما غياب الاستدلال النقدي الذي يفسر ويعلل.

في سياق آخر، يُسمح لكل دار نشر أن تسهم بعدد محدود من الأعمال، ومن دون شك، تراهن كل دار على اسم معروف تكون حظوظه أكبر في الفوز. لكن ماذا عن الأسماء الجديدة؟ هل ستحظى بالمشاركة أم ستنتظر الأقدار والمصادفات كي تجود عليها ذات يوم. أليس هذا ما يفسر لنا تعمُّد بعض الكتاب الشباب وسعيهم أن يكتب ناقد مشهور عن روايتهم، وأن يحدثوا ضجة ولو من فراغ، لعلها تثير انتباه دور النشر ولجان التحكيم إلى نصوصهم؟.

إن هذا العبث، وهذا الهوس غير الطبيعي، هو الذي يفسر لنا كيف أصبحنا نتحدث عن الجوائز عوض أن نتحدث عن النصوص وقيمها الجمالية. وهو الذي يفسر لنا كيف يصعد كاتب في لمحة خاطفة ثم يموت فجأة. وكيف يصير أسيرا للجوائز مخدَّرا بتلك الشهرة المؤقتة والعوالم الزائفة التي تصنعها. وعوض أن يرسخ كل موهبته لكتابة نص جيد يتوافق وقناعاته الجمالية، يراهن على موضوعات الساعة موقنا أنها مزيةٌ ومعيارٌ للجان التحكيم في تلقيها للنصوص، فهي في نظره الكفيلة وحدها بتحقيق مجد ثان وثالت.

خلاصة القول؛ تصير الجوائز أكثر فاعلية في المجتمعات القارئة، مجتمعات تتابع كل النصوص وليست النصوص الفائزة فحسب. وحين تصبح الكتابة الحقيقية الجادة غاية في حد ذاتها وليست هدفا لغاية أخرى نفعية ومؤقتة. لا يمكن للجوائز أن تحلَّ محل النقد، لسبب بسيط؛ أن النقد عملية إنسانية رفيعة تقوم على الاستدلال والتفسير وتمنح الفرصة للقارئ في بناء المعنى المشترك بين النص ومتلقيه ودارسه. إنها تملأ تلك الفراغات الكثيرة التي ينوء بها القارئ في أثناء تلقيه للعمل. يساعد النقد على الفهم ويغيِّر قناعات راسخة ويبني أفكارا جديدة. إنه بذلك عملية حية متواصلة وفعَّالة. بينما الجوائز تعبير عن ذائقة لجنة معينة، تكريمٌ للمبدع وتحفيزٌ مادي له. لكن المبدأ الراسخ عبر الزمن، أن النص يُكرَّم بخلوده في تاريخ القراءة وتفاعله مع النصوص الأخرى، وحين يحظى بأكبر قدر من الدراسات الحقيقية والموضوعية التي تكشف عمقه وغناه.