عاصمة الفن والثقافة أم عاصمة الطعام؟

تامر صلاح الدين
 عاصمة الفن والثقافة أم عاصمة الطعام؟

من المزاليكا إلى الخرشوف .. الأسكندرية جنة الأكيلة

تامر صلاح الدين

ظلت الأسكندرية منذ إنشائها قبل الميلاد وحتى وقتنا الحالى، عاصمة أزلية لمصر، تختلف تخصاصتها وفقا للزمان وللظروف، سياسية طوال ألف سنة للإمبراطورية البطلمية التى سيطرت على أجزاء من دول الجزر فى المتوسط وعلى أرض واسعة فى أجزاء من الساحل الفينيقى وإلى الشرق منه حتى أعماق سوريا الحالية، لكنها دائما كانت منبعا للعلوم والثقافة والإبداع، ملتقى الأدياء والفنانين والرحالة، ومفجرة لكثير من ألوان الإبداع فى الشعر والرواية والموسيقى والأغنية، وبلغات متعددة لتعطى العالم وبحق نموذج المدينة الثقافية التى تغزو مفاهيمها ومصطلحات أهلها ثقافات أخرى عديدة لتتأصل فى وجدان العالم، كعاصمة حضارية لإقليم البحر المتوسط ودوله شمالا وجنوبا، اليوم ربما تراجعت وظيفتها الثقافية لصالح القاهرة، لكنها اختارت فنا نوعيا آخر آخر، هو فن الطبخ، فأصبح الرحالة والمودونون يلقبونها بعاصمة الطعام فى مصر، العبرة هنا بالطعم والرائحة والنكهات التى يتميز بها مطبخ الأسكندرية عن سائر مطابخ العالم، ويمكننا أن نقول أنه يجمع بين كل أو أغلب أساليب الطهى التى تسخدمها الجاليات الأجنبية من مواطنى المدينة؛ أرمن وجريج، فرنسيين وإيطاليين، ألمان وروس، وبالطبع إنجليز ووشوام، مغاربة وأفارقة، ولا ننسى أهل الدلتا والصعيد، حتى أننا يمكن أن نقول أنها بوتقة صهر أهلها طعام الإقليم كله، بما فى ذلك الطعام العربى والتركى المسبك والأصيل، ودعونى أقول كعاشق للمدينة ومحب للمطبخ السكندرى، بل وطاه جيد عند الضرورة أننا نستخدم فنون وأساليب كلها ذات جذور تختلط بها بهارات الشرق وتتبيلات الغرب، الكسبرة والكمون والزعتر مع الثوم والبصل والكرات، أنواع الفلفل المختلفة، ولا يفضل أغلبنا الملح الثقيل، طعام شهى وصحى، يحمل أسماء مختلفة، بعضها لا يعرفه المغتربون أو سائر أهل مصر.

طعام أم رقصة لاتينية؟

مزالايكا وتنطق أيضا مزاليكا.. اسم ذو رنين قد يبدو لغير أبناء الأسكندرية كرقصة لاتينية، لكنه فى الأساس مجرد وجبة يعشقها أهل المدينة ولا تقدم غالبا إلا فى البيوت وقلة نادرة من المطاعم التى تتخصص فى " العفشة ."

تعدها السيدات كوجبة سريعة لا تحتاج إلى تسبيك فالأمر لا يتطلب إلا مقادير متساوية من قلوب وكلاوى وكبد البتلو أو الضأن أو حتى الكندوز توضع بترتيبها فى زيت ساخن متبل ببهارات يجيد السكندريون رجالا ونساءا مزجها: كثير من الثوم الطازج المقطع أو المفروم مع الكسبرة الناعمة، قبل القلى وعندما تدخل قطع القلوب الصغيرة والرقيقة فى السواء تلحق بالكلاوى ثم بالكبدة ، حبذا أن تشمل شرائح من " السدق" والبسطرمة ، وقد يضاف إليها أيضا "الحلويات" وهى قطع من دهون بيضاء متماسكة شهية الطعم تضعاف طاقة الرجال ، وقبل أن تطيب الوجبة بلحظات يضاف إليها قليل من الكمون والخل الأبيض فتخرج رائحة الطعام لتخترق الأجواء فيعرف الجميع أن وقت ملئ البطون قد حان .

كشرى بعدس أصفر:

ورغم نكهة المزالايكا وطعمها المميز فإنها لا تعد أشهى الوجبات السكندرية التى اشتهرت بيوتها بكشرى خاص مختلف عن كشرى القاهريين الذى يقدم فى المطاعم فهنا يتمازج اللون الأبيض للأرز مع اللون الأصفر للعدس المقشر ليؤكل إلى جوار الأسماك المشوية فقط ، وكان ما يميز الكشرى السكندرى قبل صيحات الإعتناء بالصحة أنه الوحيد الذى تطبخة "ست البيت " بزيت الأكل بينما يطبخ أرز الأسكندرية دائما بالسمن .

طاجن أسماك المكس:

أما الأسماك والسبيط المقلي وطجينهما فيؤكلان بالأرز " الصيادية " الذى تكسبه السكندريات لونه بتحمير البصل تحميرا شديدا يمنحه لونه البندقى، وهى نفس طريقة تحمير بصلة " السمك الصيادية " الذى يقال أن حساءه مفيد للعظام، وفى منطقة المكس وحدها يمكنك أن تأكل "طاجن سمك" معتبر تدبر أمره النسوة من خليط من خيرات البحر لم يتمكن أزواجهن أو أبناؤهن الصيادين من بيعها لصغر حجمها أو لزهد تجار الجملة فيها، فتقوم النساء بتنظيف تشكيلة الأسماك وإخلاءها من الأشواك وقد يكون بينها بعض من الجمبرى أو سبيطتين، يوضعون جميعا فى طاجن متبل بالطماطم والبصل والثوم يؤكل بالخبز البلدى أو بالأرز وهى وجبة إذا قدمت فى المطاعم تفقد روحها لأن نساءنا فقط من يعرفن سرها.

وجبات نيئة:

قبل أن تغزو ثقافة "السوشى" عرفت الأسكندرية ولا زالت المتعة التى يجدها العارفين فى اصطياد و"قزقزة" فواكه البحر وقشرياته نيئة بشرط أن تعرف سر الشواطئ الصخرية؛ بل ربما عليك أيضا أن تتزود بقناع للغطس وسيخ حديدى رفيع، وفقط عليك لتكسب إعجاب حبيبتك المطلة من شرفتها المواجهة للشاطئ أن تغامر بالقفز فى الماء قبل أن تتلون السماء بنور الصباح ،وبامتداد الشواطئ الصخرية يمكن للشباب وحتى صيادون متخصصون أن ينتظروا الكابوريا قبل أن تعود للصخور المغطاة بالمياه وأن "يلقفوا" الجمبرى من الحواف الوعرة بعد الفجر بقليل، كما تنتظرهم دائما "الريتسا" ملتصقة بالصخور فاردة أشواكها المؤلمة تحاول مقاومة الأسياخ الحديدية فى يد الصياد.

هل انتهت أسرار أطعمة الإسكندرية البحرية ؟ أعتقد لا ..وعليك ألا تندهش إذا رأيت رجلا محترما ذاهبا إلى الشاطئ وفى يده "غربال" لأنه سيختار بعناية مكانا ضحلا حيث يحفر عميقا فى الرمال لينخلها مستخرجا من بينها المحار البلدى مرتفع السعر شهى المذاق، وقد يجد بالجملة عددا وافرا من "أم الخلول" التى تؤكل مثلها مثل " الريتسا" نيئة بقطرات الليمون أو سلطة الطحينة، أما القشريات الأخرى فينتظرها قدر من الماء الساخن والبصل والثوم والبهارات أو شواية صغيرة وفقا لرغبة الآكلين .

طعام سكندرى خالص:

وهنا توجد ألوان أخرى من الطعام تختفى إذا غادرت الإسكندرية، منها مثلا "الخرشوف" الذى لا يعرفه أغلب المصريون، إعتبره خضروات أو حلويات أو حتى طبيخ فالنساء هنا يطيبنه مسلوقا فى حساء يمتلئ بقطع صغيرة من اللحم؛ يقدم كفاتح للشهية، أومقطعا ومسبكا فى صلصلة الطماطم مع قطع من اللحم أو محشيا باللحم أيضا وأحيانا مع عيش الغراب، وقد ينزع الأطفال أوراقه المدببة ويأكلونه نيئا .

أكلات كثيرة يطلق عليها المصريون "إسكندرانى" منها الفلافل والفول المتبل بالطماطم والثوم والكبدة المقلية وحتى المسقعة، وهنا أيضا أصل "الفخفخينا" أو مزيج الفواكه المقطعة بعناية والموضوعة فى كوب تؤكل محتوياته بالملعقة، أيضا وبالجملة  لأصحاب المزاج والمدخنين أصل شيشة "التفاحة والتومباكو" لمن يريد أن يسحب أنفاس النارجيلة، بالطبع تسأل عن السر؛ وتريد أن تعرفه؟!

إنه ببساطة "النفس" وتراكم مستمر لطرق الطبخ ومزج البهارات التى منحت المدينة - إضافة إلى صفات أخرى - لقب جنة الأكيلة لذلك لا عجب أن تختار كبريات شركات الأغذية وسلاسل المطاعم العالمية الشهيرة هذه المدينة لتصوير إعلاناتها التجارية، أو لتسويق مأكولاتها إلى المصريين عبر بوابة عاصمة الطعام المصرية، الأشهر فى العالم.