التحف المنزلية: فن وثروة وتاريخ

تامر صلاح الدين
التحف المنزلية: فن وثروة وتاريخ

أفضل مخازن القيمة وتجارة لا تخسر أبدا

 


تامر صلاح الدين- مصر

فى بيت الأديب الراحل نعيم تكلا، كنا نجتمع -منذ حوالى الثلاثين عاما- مرة واحدة كل أسبوع، ولم يزد عددنا يوما عن السبعة إضافة إلى مضيفنا، نذهب لنقرأ بعض الأعمال القصصية أو ننقدها، أو نتبادل الخبرات والهوايات، وبالطبع نتابع أخبار الأديب العالمى "نجيب محفوظ" عن قرب حيث كان نعيم من مريديه الحريصين على حضور ندوته الأسبوعية الصيفية فى فندق سان ستيفانو، أو الشتوية فى مطعم "بسترودس" فى محطة الرمل.

تذاكر تذاكر:

فى ترام الأسكندرية يصيح " المحصل" آلاف المرات كل يوم وهو يمر بين الركاب الواقفين والجالسين: "تذاكر تذاكر"، حدث ذلك وسيحدث ملايين المرات، شئ بسيط متكرر كهذا، قد يصبح ذو قيمة.

وكانت أول مرة أعرف أن تذاكر الترام قد تصبح من "الأنتيك" عندما أحضر السيد أحمد ريان "مدير مدارس القومية"-وقتها- مجموعة محببة إليه من تذاكر الترام المسلسلة، ورأيت مدى حرصه عليها أثناء تمريرها بيننا، فأولا يجب أن تكون يدك نظيفة، غير متعرقة، وكفها مفتوحا، فمن غير الممكن أن تمسك تلك "الورقة" الضعيفة من أطرافها فتهترأ، بل تضعها على راحتك الممدودة كأنك ذاهب لمصافحة حبيبتك، رأيت هناك أيضا بعض العملات النادرة؛ فضية وورقية من بينها جنيه " الجملين" الشهير.

فن وثروة فى بيوت عادية:

بالطبع وكأغلب أبناء الطبقة الوسطى الذين نشأوا فى العهد الملكى، كان أبى ومن قبله جدى لأمى يحتفظان بقطع من الموبليا الأصلية، إلى جانب ساعات، طوابع وتماثيل نصفية صغيرة من النحاس، ووجوه منحوتة من الخشب، وكان لدى والدى "كمان" عتيق أهملناه فتآكل وألقى فى المهملات، لقد خسرنا كثيرا!

لكن بعض بيوت الأسر المتوسطة فى عائلتى الكبيرة وكذلك بين دوائر الأصدقاء، تضيف طابعا فنيا لغرف الاستقبال والصالونات وحتى فى أركان غرف النوم والطعام، عبر اختيار تماثيل ولوحات، منها قديم؛ يضفى طابعا من العراقة على البيت وأصحابه، ومنها الجديد لدى أولئك الذين يتابعون الفنون الحديثة سواء كلوحات تشكيلية أو كتماثيل وأيقونات تعبر عن معنى فلسفى أو موقف من العالم.


الملك فاورق والنحاس باشا 

الأنتيك الملكى العظيم:

فيما بعد إلتقيت صدفة بتاجر الأنتيك والخبير المخضرم المعروف باسم "رضا محسن" وهو سكندرى يجيد الفرنسية إلى جانب الإنجليزية والألمانية ويعرف كيف يدير يومه بعدة لغات أخرى، عاش فى أوروبا وتنقل بين مدنها واشترى منها وباع فيها، لكنه يرى أن أعظم أنتيك ملكى فى العالم، موجود فى مصر لذلك لا يمكن تصدير "الأنتيكات" الملكية بحكم القانون، إنما يجوز تداولها بيعا وشراءا واقتناءً بين الهواة والتجار داخل الحدود المصرية.

ويفسر ذلك بأن أمراء الأسرة العلوية كانوا يستقدمون أفضل الصناع من كل الدول ليبدعوا لهم خصيصا قطع فريدة  "unique " بأسماءهم مثل دولاب الحمام الخاص بالملك فاروق وهو من الفضة الخالصة ومبطن من الداخل بالقطيفة الناعمة لتحتفظ الملابس الداخلية بدرجة حرارة الحمام، والدولاب موقع بحرف "F" وبرسم بارز للتاج الملكى المصرى.

سر تجارة الأنتيك:

ويؤكد "محسن" أن تجارة الأنتيك بشكل عام هى تجارة "الجمال" والذوق والعلم، وأنها جوهر التراث "Heritage  " وتمثل عبق الماضى وتعيد إحياء أنفاس الصانع الأصلى.

ومن المدهش أن نعرف أن أقل الأشياء حجما كدبوس الصدر مثلا قد تكون من الأنتيك الذى لا يقتصر على مقاس معين صغر أو كبر، فبالنسبة "لمجانين التحف"  فإن الهرم الأكبر وبرج إيفل وكل تلك الآثار الضخمة هى "أنتيك" أصلى يزداد قيمة مع الزمن.

أما سر تجارة الأنتيك فهو العلم والخبرة، فكما يؤكد "محسن" لا يمكن النجاح فى أى شئ دون العلم به، ثم تتولد الخبرة بالممارسة، ومع ذلك يمكن لتجار وهواة جمع الأنتيك أن تصادفهم قطعة لم يروها من قبل، وهنا يتحول ذلك الجماد إلى كائن حى "يسحب" التاجر ويخطف نظره فيبدأ فى تحديد جودة القطعة عبر قراءة تفاصيلها الدقيقة وإكتشاف مزاياها وعيوبها ومن ثم يمكنه الحكم عليها وتحديد سعرها.

أحذية الملوك والمشاهير:

وثمة مثل شهير يجرى على ألسنة تجار الأنتيك هو أن بيت الفقير لا يمكن أن تخرج منه الثروة، ففى تعريفهم له يقولون أنه "كل ما يقتنيه العظماء وأصحاب الذوق الرفيع والأثرياء القادرين على شراء التحف والمقتنيات الثمينة" التى قد تكون مجرد فرشاة أو ماكينة حلاقة للذقن، أو مشط للشعر أو حذاء، على أن تكون قطعة فريدة ومصنعة خصيصا لصاحبها،ومختومة أو موقعة من الصانع، ومن ذلك الأحذية التى أرتداءها الملوك والرؤساء والمشاهير.

ومن المثير أن نعرف أن بعض الأشياء التى لا يلتفت لها أبناء الطبقة الوسطى من تراث أجدادهم قد تمثل ثروة حقيقية لهم إذا أحسنوا تقييمها، من ذلك مثلا فتاحة الخطابات التى قد يكون سلاحها من الذهب أو الفضة المختومة ويدها من قرن الخرتيت، أو تلك الأختام التى تخص الأعيان وتكون قبضتها من "الفطران" أو الكهرمان أو الذهب والفضة مع العلم أن الحجرين الكريمان أعلى فى قيمتهما من المعادن النفيسة، وهى معلومات قد لا يعرفها الرجل العادى حتى وإن كان ذو ثقافة أو علم.

مهملات قيمة:

ومن بين ألأشياء المهملة - ذات القيمة- فى أدراجنا المنسية العملات الورقية والصور الفتوغرافية وكروت المعايدة خاصة إذا كانت من أعمال كبار الفنانين أو مصورى الملوك والرؤساء، أيضا الموبيليا القديمة المنقوشة " الأويما" والتماثيل الصغيرة- من الرخام أو الخشب- التى كانت تزين واجهات البيوت، ولوحات السيرما والخيامية العتيقة، والتماثيل التى تٌحلى سطح "البايوهات" والموائد؛ تلك التى كانت ولا زالت توجد فى بيوت الأجداد لذلك فكل قديم هو تراث وكل تراث هو أنتيك تختلف قيمته بإختلاف ثراء البيوت وقيمة أصحابها الأصليين.

ثروات خيالية:

والحقيقة أن تجارة الأنتيك فى مصر غير محددة القيمة، فبعض التجار فى القاهرة يملك كل منهم مخازن تزيد قيمة "البضائع" فيها عن المليار جنيه، أما حجم التداول نفسه فمجهول، خاصة أن عددا كبيرا من الهواة ليس لديهم محال أو أماكن ثابتة يعرضون فيها مقتنياتهم الثمينة، لذلك يوجه تاجر وخبير الأنتيك رضا محسن نصيحة لكل مصرى " لا تبع تراث عائلتك مهما كانت المغريات وأحرص على توريثه لأجيال جديدة لأن الأنتيك مخزن قيمة حقيقى من المستحيل أن يتراجع سعره، بل هو فى إزدياد دائم".

ختاما إذا كان أجدادك فى يوم ما من الأثرياء، أو من الحرفيين المهرة فابحث فيما تركوه خلفهم، من المؤكد أنك ستجد فنا وتراثا وتاريخيا قد يحقق لك ثروة غير متوقعة أو قد يحولك إلى جامع تحف أو حتى صاحب متحف خاص، ولم لا؟!