لماذا فسَدتِ الذائقةُ النقديةُ وتراجعتْ وظيفةُ النّقادِ؟

إبراهيم الحجرى - المغرب
لماذا فسَدتِ الذائقةُ النقديةُ وتراجعتْ وظيفةُ النّقادِ؟


إبراهيم الحجري- روائي وباحث مغربي

تحتكم الممارسة النقدية في الأدب، وغير الأدب، كما هو معروف، إلى السياقات المنتجة للخطاب، وإلى القيم السائدة لحظتها، بالدرجة الأولى. ومن غير المجدي طبعا، فصلها عن أطرها الفلسفيّة، والفكرية، والاجتماعية، والاقتصادية المحيطة بها، فالقيم الغالبة تنتج معاييرها، في تناغم مع السلطة الموازية، وتفرض خياراتها على البشر، الذين سيتصرفون وفق ما تمليه عليهم السيرورة المتحركة للمنتج الخطابي.

لذلك، يصير من العبث التشبث بمعايير وقيم مثالية، والسعي لتطبيقها في واقع لا يتماشى وطبيعتها، فنصبح كأننا نقيس الشعير بما نقيس به الذهب والعكس يصحّ.

في هذا السياق، يأتي الحديث عن تراجع النقد الأدبي، واندحار أخلاقيات الناقد الأدبي، وتذبذب المنتج النقدي الذي يقدمه، وبالتالي انهيار "الكاريزما" التي كان يتمتع بها هذا الشخص اعتباريا، وقيميا، ووظيفيا. فعلى المستوى الأول، لم يعد الناقد يحظى بتلك الوجاهة في المشهد الثقافي، وما عاد يتمتع بذاك التقدير الذي كان يكنّه له الأدباء والمبدعون، وصار مثل القراء، غير معترف بما ينتجه من خطاب نقديّ، لغياب المواصفات التي كانت تميز المنتج النقدي السابق. إننا أمام عصر موت "الناقد" أو بالأحرى موت الوظيفة التي كان يضطلع  بها في التحكيم، والتقييم، والتوجيه، وبيان مستوى القيمة الفنية، والإبداعية للمنتج الفني والأدبي. لقد سقطت الهيبة عن الناقد ونقده، لكثرة ما حل بهما من أخلاط مشينة.

فيما مضى، ارتبطت وظيفة الناقد بتقييم النصوص قبل النشر، بحكم أنه كان يقوم على رأس تحرير الملاحق والصفحات الثقافية، وكذا على رأس اللجان المحكمة لقراءة النصوص في دور النشر، وعلى قمة هرم المؤسسات والهيئات الثقافية والأدبية، وبما أن الوسيط الورقيّ لم يعد يضطلع وحده بمهام النشر وترويج المواد الأدبية، بحكم ظهور وسيط جماهيري جديد، متاح للجميع، ويتعلق الأمر بالوسيط الشبكي، سحبت هذه الصلاحيات من يد الناقد أو من يقوم مقامه،  وأصبح من حق الجميع نشر ما يكتبه سواء كان صالحا للنشر أم غير صالح.

كما أن دور النشر هي الأخرى تخلت عن وظيفة لجان القراءة؛ فساد الاستسهال حقل النشر والتوزيع، وتمّ تحبيط الدور الرياديّ للعملية التقويمية، فبات كثير من النقاد الذين كان لهم صيت نكرات، لا يعرفهم أحد، ولا يسمع لنقودهم أحد حتى لو كانت ذات قيمة، ما دام "الكاتب"، سواء كان مبتدئا أو مكرسا، لم يعد في حاجة إلى إجازات النقاد، وصكوك تقييمهم لمنتجه الأدبي، كي ينشر أعماله، ويروّجها بين القراء، فقد نابت مواقع التواصل الاجتماعي، والمنابر الرقمية، والمدونات الشخصية على الشبكة العنكبوتية عن الصحف والمجلات والمطبوعات الورقية، بل صار بإمكانه الكتابة والنشر في الوقت ذاته، والتفاعل الآني مع المتتبعين والقراء، واستقبال آرائهم، وتعليقاتهم.

لقد تراجع مستوى القراءة، وتضعضع تداول الكتاب، وسرقت الأجهزة الإلكترونية، والمسلسلات، واللعب الإلكترونية وقت الناس، وسادت التفاهة حتى باتت عنوان الحياة، فيما تقهقر الفعل الثقافيّ الرّصين، فساهم هذا الوضع في تحييد وظيفة النقد، سواء على مستوى المشهد العامّ، أو في المؤسّسات، ومنها المدرسة التي يعدّ من أولوياتها تمهير خريجيها على الفعل النقدي، وسلوك التأمل، مستعيضة عن ذلك، بغرس قيم الاستهلاك السالب، وترجيع المعرفة بصورة مبتسرة.

وشيئا فشيئا، تسلل هذا الكسل إلى الواقع والممارسة الحياتية. وغير خافٍ أن الأدب والفن جزأين لا يتجزآن من هذه الحياة، وبالتأكيد سيتسرب إليهما هذا الملمح العام بسلبياته وهناته.

ولا ننس أيضا، أن للمؤسسات الجامعية، دورها الكبير فيما وصل إليه مستوى النقد الأدبي، إذ لم تعد برامجها تساعد على تكوين طلاب باحثين قادرين على مواصلة العمل بعد تخرجهم، وتحقيق الإضافات المرجوة، ومواصلة العمل الذي راكمه السلف السابق، كما أن كثيرا من الأساتذة الجامعيين لا يقومون بمهام البحث العلمي على الوجه المطلوب، ولا يزاولون الفعل النقدي عبر المتابعة والمواكبة، واقتصر أغلب عملهم على التدريس في شكله التقليدي الاستهلاكيّ، دون تركيز على العمل الإنجازيّ، وإشراك الطلاب في مسارات البحث، وتمهيرهم على تصميم مشاريعهم، بوعي نقدي، واعتمادا على طاقاتهم الشخصية دون اجترار المكتسبات السابقة.

لا شك أنّ نكوص صورة المثقف في المجتمعات العربية، وتهميش الدور الريادي الذي كان يضطلع به في تقويم المشهد، والارتقاء بالنظم، وتحصين الذائقة من الانحراف، أمور جعلت الحبل يُطلق على الغارب، وفُتحت الأبواب على مصراعيها، أمام الابتذال والتفاهة، اللتين صارتا، مع مرور الوقت، هما الأصل والبدل.

إن التفاعل بين عناصر هذه النخبة، والنقاش العامّ الذي تفتحه حول القضايا الإشكالية في المجتمع، هو ما يولّد حركية نقدية، تنتقل، مع الأيام، إلى العامة؛ فيتحول السؤال النقديّ إلى همّ جمعيّ. وهذا السياق هو الكفيل بخلق فلسفة نقدية واعية وإيجابية قمينة بتنمية الذوق، والارتقاء بالحساسيات المتنوعة، مع الإسهام، بشكل بناء، في تأسيس إبدالات فنية، وأدبية، وإبداعية راقية، تجيب عن أسئلة الناس، وتصقل أفهامهم، وتخلخل مسبقاتهم، وتجعلهم جديرين بالعصر، مؤهلين للمسايرة على قدر كبير من الاقتدار...

هذا الجو يغيب، للأسف الشديد، في عالمنا العربيّ، لذلك كلّه، تراجع دور الناقد، وتهلهلت وظيفته، وضعف أداؤه النقديّ، وانكمش مستوى إسهامه في خلق سيرورة تأملية فعالة، واستقال من ممارسته الواقعية في تقويم المنجز، وترتيبه، وتعديله، وفق تصور متناغم يخدم كل المقومات والخلفيات، ويؤسس لعمل جادّ، متناسق النتائج، وبات عوض ذلك، يتهافت على المصالح الشخصية، ويتنازل عن صدقيته وموضوعيته، تحقيقا لمآرب خارجة عن مهامه، مُفرّطا بذلك، في صوته النزيه في المجتمع، وملوثا صورته أمام العالم الذي كان، وما يزال، ينتظرُ منه الشيء الكثير، فيسقط في عينيه، ويُصنّف باعتباره منبطحا لا جدوى من شهادة زوره. وبفعل ذلك، انتشرت تقويمات مزيفة، لا معايير فنية وجمالية  تؤطرها، ولا حسّا منطقيّا يعزّزها، بل إنّها مجرد ردود أفعال خارجية رضائية غرضها المجاملة.