الغناء والدين والجنس

محمد نبيل - مصر
الغناء والدين والجنس

حرب بداية الألفية.. الغناء والدين والجنس

محمد نبيل

كان الاحتفال بأول رأس سنة في الألفية الثالثة مغايرًا لكل ما سبقه، اختلطت أصوات الشماريخ والألعاب النارية ووميضها مع كلاكسات السيارات وتقارع كؤوس النبيذ، والاستعداد لاستقبال أكبر شجرة كريسماس في جينيس، وانتشار كاميرات الفضائيات لنقل الحدث.

هذا في العلن، أما الخفاء، حيث عالم حركات الإسلام السياسي، فكان الاحتفال بتغيير جذري في تكتيك المواجهات، بدأ عناصرها قيادة الطائرات لرفع حصيلة مواردها، وتفجير كاد يصبح مأساويًا في لبنان، لولا يقظة الجيش، وأصبحت مصر مسرحًا لأحدث عروض فكر "الوهابية" التكفيري، وعلى رأسها ظاهرة الدعاة الجدد على الفضائيات.

فيما صار الشارع ملكًا للإخوان ودروسهم في الزوايا والمدارس، واستحواذهم على نسبة كبيرة من برلمان 2005، ليتم البحث عن شيء يشتت الانتباه عنهم، الجنس، أزمة الإسلاميين الأبدية.

الموسيقى vs المواعظ

خيم الهدوء على المشهد أواخر التسعينيات، وأوائل الألفية، أعتقد جيل التسعينيات أنه وصل منهاه في الموسيقى ولا جديد يقدمه، فمفجر ثورة الأغنية الشبابية منتصف الثمانينيات التي قلبت كل الموازين "حميد الشاعري" كالت له نقابة الموسيقيين المصريين ضربة قاصمة جعلته يصدر ألبومات خاصة به، بعدما كان يلحن ويوزع يوميًا عشرات الأغاني.

تقنيًا، ضرب الغرور باقي النجوم، الذين اعتقدوا أنهم وصلوا للقمة، مع بداية ثورة "التراكات" التكنولوجية، أوائل الثمانينيات، التي أتاحت لكل عازف أن يؤدي دوره منفردًا، فعززت فكرة الاستديو المتطور لتنهي عصر الفرق الموسيقية، التي يجب اجتماعها لتسجيل الأغاني، ثم يأتي المكساج فيتمم العمل بدمج أصوات الآلات، ليحقق التجانس، وينتشر الكمبيوتر، ويختزل كل ذلك.

موسيقيًا، أخطأوا حين ظنوا أنهم قدموا كل جديد، وكان الأبرز توظيف "حميد" أصواتًا ليست طربية، بل لا تكاد حناجرهم تصل إلى "الأوكتاف" أو نصفه، عاجزة عن صناعة "الحليات والعرب والقفلات"، وتلعب النغمات في أوضاعها الصحيحة بصعوبة- منهم مصطفى قمر وسيمون وهشام عباس- ليقضي على نظرية الطرب، التي استحوذت على الأغنية منذ الثلاثينيات حتى الثمانينيات، وأصبحت العبرة هي الأغنية وليس صوت المغني، والأدهى أنه جعلهم نجومًا تربعوا على عرش الموسيقى، واستمروا دون تجديد حتى سحبت "سيديهات" عمرو خالد البساط من تحت أقدامهم.

الفضائيات والكاسيت.. صعود وانهيار

أحس صناع الموسيقى، بعد حرب الإسلاميين عليهم، بانهيار سوق الكاسيت، وكان أمامهم خياران، إما الاستسلام أو المواصلة، فقاتلوا بشراسة.

ولأن لكل حرب رجالها، فكان هناك مخططون رئيسيون أولهم "نمبر وان" التسعينيات المنتج العبقري محسن جابر، الذي بادر بتأسيس قناة "مزيكا"، فنالت نصيبًا جيدًا من المشاهدات.

وبدأت الحرب بتأسيس "مزيكا" و"عالم الفن"، ليظهر أكبر حليف فيها، وهو مؤسس أضخم إمبراطورية لإنتاج الفيديو كليب والموسيقى، "جمال مروان"، الذي دشن مجموعة "ميلودي" بقناتي "آربيا" و"هيتس"، وشركة "ميلودي ميوزيك"، وألحق بها قناة للأغاني الأجنبية، وقناتي أفلام ومثلهما للدراما واثنتين للمنوعات.

أما الملحن محمد رحيم، الذي صنع جيلًا جديدًا لعصر مليء بالمعارك في عالم الموسيقى.. كانت بدايته مع الهضبة في آخر تعاون له مع حميد، الذي وزّع ألبوم "عودوني" 1998، وبالتحديد في أغنية "وغلاوتك"، وتجلت شهرته بعد تلحين "ولا على باله"، في ألبوم "أكتر واحد"، أكثر ألبومات دياب شهرة، والذي كان ورشة عمل لشباب الشعراء والملحنين، على رأسهم عمرو مصطفى.

وأثارت تلك الورشة حفيظة الشباب الموهوبين، لتؤكد لهم أن النجومية لا تحتاج "سلمًا" بل قد تحدث ضجة من أول ألحانك، كما فعل رحيم وعمرو مصطفى وغيرهما مع الهضبة.

أخاصمك آه

وكان الوصول للخلطة السحرية للأغنية الناجحة هو موزع خبرة ليس مشهورًا يبث روحًا مختلفة للحن والكلام بجانب شاعر وملحن شابين، والمثال هنا الذي دق ناقوس الحرب مع الإسلاميين "أخاصمك آه"، للبنانية نانسي عجرم، وكان ثلاثتهم: فوزي إبراهيم "شاعرًا"، ومحمد سعد "ملحنًا"، وعادل عايش "موزعًا، والإخراج للبنانية نادين لبكي، ليتم ترويج الفيديو عبر فضائيات محسن جابر وجمال مروان.

وتكشف كواليس "أخاصمك آه" خطوطًا كثيرة في صناعة الأغنية العربية ومراحل تطورها من منتصف التسعينيات، وعلى امتداد 15 سنة تالية، فلم تكن نانسي للمصريين كبقية المغنيات اللبنانيات الذين عرفوهن وعشقوهن، كماجدة الرومي ونوال الزغبي، ثم ديانا حداد، وإلين خلف، وميريام وإليسا، اللائي تربين على أصول الغناء العربي، بأصوات مميزة ومساحات واسعة في الحنجرة وقوة في الصوت، وخبرة في المقامات بالنزول إلى القرار والصعود إلى الجواب دون الوقوع في فخ الأداء المستعار للنغمات، فديانا حداد مثلًا لا يوجد شبيه لصوتها الذي من طبقة "الآلتو" وتمتلك "نفسًا" قويًا للغاية، يمكنها من رفع شدة صوتها لدرجة إيصال موجاته لآخر فرد في القاعة دون "مايك".

والقياس ينطبق على البقية السابقة، التي تمتاز كل منهن بفرادة في شيء معين، وهي مدرسة الرائد سيمون أسمر، صانع النجوم في لبنان، ومؤسس "ستوديو الفن"، لرعاية وصناعة النجوم وتدريبهم، ثم انتشروا في مصر بفضل "عالم الفن" التي أنتجت لهم.

وبظهور "أخاصمك آه" 2003 بدأ اتجاه جديد للبنانيين والمصريين في الغناء، فلا علاقة لنانسي بسيمون أسمر، هي درست الموسيقى في هدوء، وشاركت في برنامج تليفزيوني مرة واختفت، وعادت بألبومين لم يحققا شهرة، فلم تفكر في الاعتزال، حتى انتشلتها "أخاصمك آه" من الضياع، وأحدثت نقلة في حياتها، دخلت بها صناعة الموسيقى في مصر إلى طريق جديد.

تصدرت إلين- بقوة صوتها ورقصها واشتهار الألحان التي تختارها، ومنتجها "جيجي لامارا"، الذي فتح بابه لكل الشعراء والملحنين الذين يرغبون في التعاون معها.

وجاء الشباب الثلاثة أصحاب "أخاصمك آه" إلى جيجي وعرضوها عليه، فأعجبته وفطن إلى أن هذه التركيبة فعالة وستنجح حتمًا، وعرضها على إلين التي فاجأتهم برفضها، لتختلف مع مدير أعمالها.

اتفق جيجي مع الشباب على الحضور، وأن هناك فتاة بلدياته- "نانسي عجرم"، التي أخفقت في ألبومين من قبل- افتتنت بالأغنية واتفقت مع صديقتها المخرجة نادين لبكي- وقد انتهت توًا من دراسة الإخراج السينمائي- على صنع كليب للأغنية يخلق نهجًا مختلفًا في السوق، فتصبح خطًا فاصلًا بين ما قبلها وما بعدها في 2003.

الإثارة والألحان العصرية

"الفن هو الخيال الجنسي"، كما يقول الكاتب المسرحي الأمريكي جورج ناثان، وعندنا في مصر لم ينطبق ذلك على الفنون عامة والموسيقى بالأخص، لكن مع غزو الأغاني الغربية ذات الحرية المطلقة- خصوصًا كليبات شاكيرا- فرضت هذه لفكرة نفسها.

لقد اختلفت فكرة توظيف الجنس في الموسيقى منذ "عبد الوهاب" حتى "إلين خلف"، فاعتبرت محض خيال، وبالرجوع لما قبلهما نجد "التخت" والمسارح الغنائية وفرقها في الثلاثينيات، فتورطت فرقتا "بديعة مصابني" و"نجيب الريحاني" في الكلمات وليس الألحان، التي كانت عاملًا مساعدًا فقط، ثم يأتي الفلكلور ليوضح هذه النقطة أكثر مثل "أحمر يا قميص النوم"، أو "اتدحرج واجري يا رمان" بلا جمل لحنية طويلة بل إيقاع "محلي" يردد من خلاله الكلام باستخدام "الدربكة"، قبل عصر الكمبيوتر والاستديوهات المتطورة.

 

بداية الحرب

تتلقف "ميلودي" و"مزيكا" كليب "أخصمك آه"، ويبث طوال اليوم ويصبح حديث الشارع، وتهيج الدنيا، ويأتي رد الجماعات المتشددة عنيفًا للغاية بعدما استشعرت بدء شن حرب عليها، فرغم سيطرتها على الفضائيات والإنترنت والكاسيت والشارع ظهر هذا الكليب وأصبح زينة المقاهي.

تصدر فتوى من "الكويت" تحرم "غناء النساء"، وكتب الداعية السلفي "سعيد بن ناصر الغامدي" بموقع "صيد الفؤاد": (إن ما يحدث الآن هو "مصيبة" عظمى و"طامة" كبرى تُضم إلى ما قبلها من "البلايا" والرزايا)، مضيفًا: (أنه "وجب" عليه "النصح والتذكير" على أمر "لا ينبغي" السكوت عنه، بل يجب الحذر منه والابتعاد عنه، وهو ما يحدث في القنوات الفضائية من "خدش للحياء والعفة والكرامة").

المصري أم اللبناني

في أي معركة لا تنتظر نتائج ضربتك الأولى، فبروتوكول الحروب يقضي بأن تستمر في الضرب حتى تستشعر الانتصار المبدئي، وهو ما حدث في "معركة الأغنية المصرية مع الخطاب الظلامي".. بعد أشهر قليلة من "أخاصمك آه" ظهر صاروخ نووي جديد، وهو كليب "إنت عارف ليه"، للمطربة المصرية، "روبي"، والمنتج "شريف صبري"، وكليب راقص بمنطق "الفتك" تعاون فيه مع محمد رحيم صاحب وجهة نظر مغايرة، تخلى عن فكرة بطولة آلة "صولو" وهي الأكورديون وأعطى سلطة مطلقة للإيقاع، فيصبح الصولو الوحيد هو صوت "روبي".

أما رحيم فثبت إيقاعه وباصاته، وأخذ يشكل فيه طيلة الغنوة مرة بتفصيلة "أكورديون" ومرة بتفصيلة "إسبانش جيتار"، وأخرى "بالدربكة"، التي فرد لها مساحات أكثر من تلك التي فردها "لصوت روبي" "الميزو صوبرانو"، الذي وقع في "فخ المستعار" في عدد من المناطق، ما أضفى عليها "الطابع الغرائزي" الذي أشرنا إليه من قبل، كما أضاف أيضا "لزَمَات" من نفس "صوت روبي" المضاف إليه "صدى"، ولأن مساحة صوت نانسي أكبر من روبي، أصبح وقوعها في المستعار أكبر، ليكون صوتها أكثر إثارة، إذ إن صوت الجنس يشذ عن جميع الأصوات الطبيعية.




آه  ç آه ونص

أثار تبني "ميلودي" وصاحبها جمال مروان لـ"روبي" جدلًا وصدمة أكبر من "آهات" "ريلاكس إن" لجيجي لامار متبني "نانسي"، الذي صعّد في حرب بدأت بالصغار وجذبت إليها الكبار، ولجأ إلى "آه ونص"، بتوزيع من طارق مدكور الذي جعل نانسي- بموسيقاه- تحلق في السماء، وتحتل حفلات الإذاعة والتليفزيون، ونحَّى تيار سيمون أسمر جانبًا، كما جددت نادين لبكي في "آه ونص"، فعالجت الريف المصري وفلكلوره العالق في ذهن الأجنبي، رغم التصوير في الريف اللبناني.

آه  ç لأ لأ لأ لأ

جاء رد ميلودي سريعًا، وهذه المرة بـ"ليه بيداري كده"، التي أظهرت فيها روبي ليونتها داخل "الجيم"، لتشعل الأجواء أكثر من سابقيها بألحان محمد رحيم.

ثم أتبعه شريف صبري بفيلم من إخراجه "7 ورقات كوتشينة" المصنوع خصيصًا للترويج لبطلته "روبي"، والذي شهد أغنية "كل أما أقوله آه"، بتوزيع وتلحين محمد رحيم الذي تبنى روبي موسيقيا، وأظهر في نهاية "السينيو" جملة "يقولي هو لأ" بتكرار "لأ لأ لأ لأ"، بأربع سكتات بفارق مازور وبنفس تدرج الصوت الذي صاحبته روبي على الشاشة وهي "تفك" أزرار فستانها بمقدار "لأ - زر" حتى ينكشف النصف العلوي من جسدها بالكامل مع آخر لأ "زر"، فاقتطعت "ميلودي" الكليب من الفيلم فور عرضه، وروجت له، لتزيد الدنيا اشتعالًا.

ولم يكتف "شريف صبري ومحمد رحيم وروبي" بذلك، فسرعان ما طرحوا كليب" "ابقى قابلني"، بدت فيه روبي وكأنها كليوباترا بأزياء فرعونية وتلف حول رقبتها ثعبانًا ضخمًا رقصت به رقصها المميز "بانحناء عجيزتها لتحاكي النقوش القديمة على جدران المعابد المصرية".

اغتاظ الإسلاميون حتى كاد بخار غليانهم يخرج من آذانهم، وعم مجيء 2005 احتل الإخوان 88 مقعدًا في مجلس الشعب، ليتركوا مشاكل البلد وينشغلوا بحرب الموسيقيين، فتقدم محسن راضي- أحد أعضاء كتلتهم في البرلمان- بطلب إحاطة طالبًا توضيحًا من وزيري الإعلام أنس الفقي، والثقافة، فاروق حسني، لكيفية السماح لنانسي وآخرين بنشر أعمالهم، التي وصفها بالهابطة.

مطالبًا بسرعة استصدار قرار بمنع ظهور من ترتدي ما يكشف أكثر مما يغطي- ما يستفز غرائز الشباب ويثيرها- أو عملها بالقاهرة أو التليفزيون المصري.

صاحب ذلك حملات موجهة للصحفيين، تطلب من الحكومة تنفيذ مطالبهم، وترضخ الحكومة لبعض المطالب، فمنعت إذاعة أغاني "روبي" على التليفزيون، ما لم يغير شيئًا في الحرب مع الفضائيات التي اجتذبت المشاهدين.

انتهت هذه الجولة باستراحة بطلتيها، نانسي وروبي، فليس من المعقول أن تستمر المعركة بهما فقط، وآن الأوان لدخول غيرهما الحرب.

وتوالى ظهور المغنيات اللبنانيات في كافيهات المهندسين والدقي، وسفر الشعراء والملحنين المصريين للحمرا ببيروت يوميًا، ما يوحي بامتزاج مصر ولبنان.

وتعاونت "ميلودي" و"مزيكا"، فطرحتا الكليبات على قنواتهما دون نزاع بين مالكيهما.

وانضمت قنوات "روتانا" إلى الحرب، بعد تغيير سياستها المحافظة للغاية عقب تولي هالة سرحان إدارتها، وقدمت بنفسها برامج ذات توجهات مختلفة، وأنتجت أخرى سلطت الضوء على الأحداث الفنية المدوية.

وكوّن غسان رحباني من خلال "فور كاتس" أغنية "عنتر"، فيما غيّرت "مزيكا" من أدائها مع الحفاظ على موسيقى الجنس، فأنتجت أغاني كاريكاتورية ذات شبق مستعار كنهج "ميلودي"، والبداية هنا ببطلة المرحلة الجديدة، هيفاء وهبي، في كليب "رجب"، من إخراج هادي الباجوري، بعدما بلورتها "روتانا" في "يا حياة قلبي".. دارت فكرة "رجب"، حول فتاة في شادر سمك توجه رسالتها لأحد المِعلّمين "رجب"، ليحذر صديقه من عدم المساس بقلبها وإلا ستأسره عندها عاشقًا مشتاقًا محتارًا، الكلمات لأحمد ماضي، وألحان هيثم زياد، وهما مصريان، وتوزيع اللبناني جان ماري رياشي، الذي زاد من دور الرق والمزمار البلدي، وانطلق المصمودي الصغير بحركة متوسطة ليفسح المجال أمام مستعار هيفاء لينشر مزيدًا من إحماءات الجنس المثيرة.

تجلى اسم رياشي مع مجموعة ملحنين وموزعين لبنانيين ظهروا على غرار الضجة التي أحدثها محمد رحيم مع روبي، فكان من بينهم مارك عبد النور وضياء العزاوي وروجيه أبي عقل وطوني سابا وجان صليبا، وبعضهم كان يقوم بالإنتاج والإخراج.

وعلى غرار النجاح الذي حققه شريف صبري في إخراج الفيديو كليب في مصر ظهر في لبنان أيضًا مخرجون قادوا هذه المرحلة أبرزهم جاد شويري وجاد صوايا ويحيى سعادة، الذين تقمصوا شخصية "بجماليون" في صنع فنانات لبنان، فأشعل جاد الفضائيات بماريا وكليب "العب"، التي أعطت إيحاءات جنسية صريحة في بعض المشاهد، عكست أفلام البورنو، مع ألحان وتوزيع بسيط لمحمد رحيم تماشت مع صوت ماريا المستعار.

أما جاد صوايا، فصنع دانا حلبي في كليب كارثي "أنا دانا"، تدعو الجميع صراحة لمشاهدة مفاتنها، وبدأ بصوت دربكة على إيقاع بلدي بطيء، لتبدأ دانا في كلماتها بـ"هس هس هس، بص عليا بص"، وضع موسيقاها ووزعها مارك عبد النور بتجديد للسائد، يمزج الأغنية بوصلة رقص بلدي بتقاسيم أوكورديون على مقام بيات، بدأ خلالها يغير في حركة الموسيقى طيلة الأغنية بشكل هيستيري يبطؤه حين تغني دانا ويرفعه في وصلة الرقص الذي كان بطلها الأكورديون وتقاسيمه مع الرق، ثم يهبط ويعلو ليكرر الوصلة ثانية ثم يعود لدانا التي تتغنج وهي تقول: "ما تبص" ويعلو تدريجيًا حتى يصل لأعلى سرعة للجملة التي تعمل كلزمة موسيقية "هس هس".

اقتبست ميلودي الفكرة التي رأتها حلًا مثاليًا لترد على "رجب" بـ"عتريس" لدومينيك حوراني، ذات الباع في الغناء الشعبي اللبناني- التي قدمتها بشكل ساخر بإيقاع مطعَّم بالطبل البلدي والمزامير، أشبه بالسلام الصعيدي الشحط محط، أعده الموزع والملحن اللبناني روجيه أبي عقل، وظهرت في الكليب الذي أخرجه جاد صوايا بعباءة فلاحي بها شق يبرز ساقيها الطويلتين، ويحتوي على مشاهد تجمعها في حقل ذرة بعتريس، وهو شخص ذو شنب كثيف بشكل يثير الضحك وعضلات مفتولة لا تتناغم مع نحافة معشوقته.

وأصدرت ميلودي "قال يعني" في أول ظهور لقمر الطحش، التي لفتت الأنظار بصوت صوبرانو، ومدى لم يتجاوز الأوكتاف الواحد، وكأن طفلة تغني، لكن إحماءات الجنس وإخنافاته لم تغب عن صوتها المستعار في كل كلمة، وفي إخراج الفيديو ظهرت قمر تقلد فتاة في أحد الإعلانات التي أنتجتها ميلودي، يروج لقناة أغانٍ أجنبية جديدة "ميلودي تيونز"، وتظهر فيه فتاة في البلكونة تلملم الغسيل، وتحاول أن تقلد شاكيرا، ممسكة بسروال رجالي وترقص رقصتها في أغنية "هيبس دونت لاي"، وتردد كلماتها بإنجليزية مضحكة، والبلكونة التي تظهر فيها تحتها محل تعلوه لافتة "عطارة الحرمين"، في إشارة للأسماء الدينية التي نشرتها الجماعات الإسلامية على معظم المحال والشركات في تلك الفترة كـ"بقالة الحمد"، "مخبوزات القدس"، "مفروشات الأقصى"، "حضانة التوحيد" وهكذا.

وكان المخرج يحيى سعادة صاحب النسبة الأكبر من الكليبات التي تركت صورة ذهنية لدى متلقيها، وسيطرت على أفكارها فلسفة سريالية، فقدم نيكول سابا بـ"كنت في حالي"، وبها مشهد لا ينسى، حينما تمددت على السفرة وفرطت حبات الرمان التي انهالت على ثدييها الناهدين ليسيطر على المشهد لون رماني يحيط بفتاة شقراء مثيرة، واختلفت نيكول عن سابقاتها في شخصيتها القوية التي تفرض نفسها على أعمالها، فتظهر كفتاة مثقفة تعتنق النسوية وتؤمن بها، فتهاجم بشاعة المجتمع الذكوري وتمجد في استقلالية الأنثى وساديتها أحيانًا، كما ظهر في "فارس أحلامي"، وبدأ يظهر معها ملحنان وموزعان جديدان هما محمد يحيى وتوما.

ونجح سعادة في نقل الممثلة سمية الخشاب إلى الغناء، وأخرج لها "كليب" صادمًا "عايزة كده"، توزيع حسن الشافعي، وصمم لها مشهدًا في آخر الكليب، وهي ترقص في "بَبّ" وتلتقي حبيبها في لحظة سكر أو هكذا يهيأ لها ظهوره فيحضنها ويطوق خصرها بذراعيه ويدوران رقصًا، ناسيين المحيطين بهما وكل شيء؛ وكانت سمية حينها مشهورة عند الناس بالطيبة والحكمة، كما ظهرت في مسلسل حقق شهرة كبيرة حينها اسمه "الحقيقة والسراب" بطولة فيفي عبده.

ثم أخرج سعادة أربعة كليبات لهيفاء وهبي، ثلاثة ألهبت الوسط الموسيقي العربي: "مش قادرة استنى"، "حاسة ما بينا في حاجة"، "يا ابن الحلال"، الذي ظهرت فيه ترتدي بنطلون ليتكس أحمر، وترقص بجوار محل خضروات، صنع ديكورًا مدهشًا من الفلفل الأحمر، أشرف على هذه الأغنيات موسيقيون محترفون في مصر كأمير محروس وطارق مدكور، وتتجلى احترافيتهم في التقنيات الصوتية الحديثة ووضْع صوت هيفاء القصير المدى في جمل لحنية ذات مدى طويل نسبيًا، ففي "يا ابن الحلال" وضعها محروس في جملة وظفت بشكل جيد في منطقة الجوابات التي كانت تقول "بحبك وحبك جوايا/ وبيني وبينك/ هتعند هتتعب ويايا/ يا قلبك يا عينك"، فأظهرت عوار صوتها الذي غطى المستعار الشبقي عليه، ويحسب ذلك لأمير الذي فرد لها وصلة رقص بالمزمار البلدي وإيقاعات بالصوت العادي.

وأحيا تيار آخر في هذه المعركة الفلكلور المصري، تجديدًا في آليات الحرب، فظهرت مروى بأغنية "أمه نعيمة" لليلى نظمي، فسحبت البساط منها،  وكان هذا عجيبًا، فكيف للبنانية أن تؤدي أغنية فلكلورية مصرية بهذا الشكل تظهر في كليب ترقص بزي فلاحي مصري، فتغني العامية المصرية الفلاحي بطلاقة، مثل اللائي يتكئن على نطق بعض الكلمات ليبرزن إتقانهن إيقاع نطقها المصري، كما في لهجة دومينيك وقمر ورولا سعد.

كل هذا جعل الناس لا يصدقون لبنانية مروى، ولا حتى أنها فتاة تربت في استديوهات موسيقى، بل أشعرتهم بأنها تربت في موالد مصر.

وبرع الموزع اللبناني ضياء الغزاوي في معالجة ذلك اللحن الفلكلوري، فطعّم إيقاعاته بالباص جيتار والإليكتريك، ومزج فيها راب أمريكي بأصوات إنجليزية، كما أدخل فيها كورالًا نسائيًا، وأدخل صوت طفلة صغيرة تغني مع مروى أحدثت تناغمًا، فمروى صوبرانو وحينما ترتفع بصوتها في درجات السلم الموسيقي يصبح صوتها طفوليًا، وهو ما حدث وزادته إثارة بصيحتها "إهيه"، التي بدت متغنجة بعض الشيء، وأصدرت مروى ألبومًا كاملًا يضم أغاني فلكلور مصري ريفي منها "ادلع يا رشيدي"، "ما اشربش الشاي"، التي صوّرت فيديو كليب أيضًا.

حاولت قمر تقليدها فأصدرت لها مزيكا "العتبة جزاز"، ألحان محمد رحيم، توزيع كريم عبد الوهاب وناصر الأسعد، فلم تحقق شهرة مروى، لأن قمر اعتمدت فقط على أن طبقة صوتها نفس طبقة صوت مروى، لكنها نسيت أنه على مستوى شدة الصوت هناك فرق واسع بينها وبين مروى، فقمر يضرب صوتها الضعف من كل النواحي، لذلك تعتمد على المستعار والإحماءات الجنسية، بجانب أن ضياء العزاوي الذي وزّع "أمه نعيمة"، يمتلك رؤية مكتملة وفلسفة خاصة للتعامل مع الفلكلور وربطه بالراب الأمريكي. أما على مستوى التوزيع فكان هناك شيء من عدم الانسجام؛ مثلًا ما علاقة استخدام الترمبونات وآلات النحاس عمومًا مع فلكلور ريفي مصري وليس بلوز أمريكي.

وفي ضوء إيحاء القديم أصدر الفور كاتس، "ولعت كتير"، وظهرت رولا مع صباح في أغنية "يانا يانا"، التي أشهرتها كثيرًا فقدمت "عن إذنك يا معلم"، على نفس النمط، لكن دون إيحاء جنسي، لذا رولا سعد لا تحسب على هذا التيار، فصوتها مقبول إلى حد ما، وتبعد عن المستعار بعض الشيء، وهيأ لها الموزع طوني سابا "عن إذنك"، بأسلوب الأغاني الشعبية المصرية، التي تبدأ بتقاسيم أكورديون على البيات غالبًا، أدتها بشكل مقبول ولاقت رواجًا.

ولم تحسب رولا على تيار اللبنانيات اللاتي تمتعن بأضواء هذه الفترة الساطعة، وكانت أصواتهن جيدة وثقافتهن الموسيقية عالية وجئن كتيار يندد بتوظيف الجنس في الغناء، بينما لا يعترض على الرقص وملابس الفيديوهات، كان من بينهن ميريام فارس، إليسا، كارول سماحة، جوانا ملاح، بريجيت ياغي، أمل حجازي، ميليسا، وانضمت إليهن نانسي عجرم والعديد من المغنيات المصريات، مثل شيرين عبد الوهاب وشيرين وجدي، بالإضافة لعدد من الفنانات العرب المقيمات في أوروبا وعدن إلى الوطن العربي ليشتركن في هذه الصحوة من بينهن مغنية لبنانية أتت من السويد اسمها دارين قدمت أغنية مصورة بعنوان "أيوا أيوا"، والأردنية رانيا الكردي التي قدمت "شايف نفسك"، واعتمدتا في أغنيتهما على البروجريسف روك مبتعدتين عن أي طابع شرقي سوى في الكلمات العامية المصرية، عند رانيا، أو العامية اللبنانية عند دارين.

وبلغ الصراع أشده، ونشرت الجماعات الإسلامية في المدارس والجامعات أحاديث تحرّم الموسيقى والغناء بشكل لم يسبق له مثيل، حتى أصبح الاستماع إلى الأغاني عند البعض جريمة تضاهي الزنى وتؤجج عذاب القبر، في المقابل جرّأ الفيديو كليب بعض الفتيات على أن يسرن في شوارع القاهرة ببودي فوق السرة، بموضة انتشرت حتى في الأقاليم في الخمس سنوات الأولى من الألفية، كما أصبحت سِيَر الفنانات في كل برامج القنوات الإسلامية.

واستمر ضغط الإخوان لوصف الفنانات بالعاهرات، واستمر بعض الصحفيين في تدشين حملات ضدهن، وهؤلاء من المرجح ميلهم إلى الإخوان أو متأثرين بخطابهم في ترويج الحملات الصحفية التي تصفهن بالعاهرات، لدرجة أن الجماعات تجرأت على شن هجوم كاسح على عادل الكلباني أحد أبرز الأئمة في الحرم المكي (وهذا منصب له وقاره) بعد فتوى أصدرها تبيح الغناء، وتؤكد أنه لا يوجد صوت حرام، لدرجة أنه من قوة الهجوم خرج الرجل مرة أخرى ليعدل فتواه، فيضيف إلى هذه الفتوى استثناء، وهو هيفاء وهبي ومن على شاكلتها، وهذا الموقف عرَّى أشياء كثيرة سواء على مستوى الجماعات أو على مستوى رجال الدين أصحاب المناصب الرسمية الموصوفين بالوسطيين، وأيضًا هجوم مذيع قناة الناس السلفية محمد عبد العال على هيفاء وهبي ووصفها بـ"الساقطة التي تعري لحمها"، فترد عليه حينها قائلة: إن ذلك تجاوز غير أخلاقي على الإطلاق وأنها ستقاضيه.

واختفى جمال مروان بملياراته مجهولة المصدر التي ظهر بها فجأة ودشن بها إمبراطورية إعلامية في الشرق الأوسط في هذا العقد، واستيقظ الفنانون صباحًا على خبر اختفاء ميلودي وتصفيتها دون مقدمات.

وبدأ قادة المعركة يختفون تدريجيًا، فجاد صوايا أعلن اعتزاله الإخراج والإنتاج والدخول إلى معترك السياسة وترشحه في البرلمان اللبناني، فهجمت جماعة ما على منزله ودمرته تمامًا، ومات يحيى سعادة صعقًا بالكهرباء في تركيا أثناء تصويره كليب جديد لمايا دياب في أول تعاون بينهما، ولأنه كان دقيقًا في عمله ويحب أن يشرف ويلمس كل شيء في الديكور بنفسه، لمس سلكين عاريين فصعق ومات على الفور، بينما تقوقع جاد شويري داخل منزله باكيًا حاله، فكل العقود التي أبرمها مع ميلودي عليه أن يبلها ويشرب ماءها، فالشركة اختفت هي وصاحبها وملياراتها، واكتشفت قمر أنها حامل، وأنجبت بنتًا طلبت من القضاء المصري إثبات نسبها لجمال مروان، صاحب الشركة التي تبنتها، وخسرت القضية وضاع حق ابنتها، وتعاركت ماريا مع جاد شويري وقالت: إنها لم تكن تعلم أن كليباتها بكل هذه الإثارة، وأشارت إلى أنه ضحك عليها وأخبرها بأنها تتقمص دور طفلة تلعق المصاصة، وأنها صدمت أن الناس فسروه بشيء آخر، وأصبح حال عشرات الفنانين والملحنين والمخرجين وآلاف العاملين مثل شويري.

واختفى اللبنانيون الذين تبنتهم ميلودي من مصر تدريجيًا، إلا من ارتبطوا فيها بمصالح ككارول سماحة التي تزوجت رجل الأعمال المصري وليد مصطفى، وهيفاء التي تزوجت رجل الأعمال المصري أحمد أبو هشيمة وانفصلت منه لاحقًا، لتنتشر شائعات بأن الإخوان كانوا سببًا في تطليقها منه.

استلم راية الحرب منهن مغنيات جديدات كلهن مصريات وأغلبهن راقصات تخرجن في كباريهات شارع الهرم، وعلى رأسهن بوسي سمير التي قدمت أغنيتين أجرأ من كل ما سبق وهما "حط النقط على الحروف" و"أدخله جوه"، وسما المصري التي قدمت "أحمد يا عمر"، وتغيرت الخريطة الإنتاجية وأصبحت شركات الإنتاج السينمائي هي التي تتبناهن بقيادة الأخوين أحمد ومحمد السبكي اللذين نجحا في ضم لبنانيات من جيل الحرب الجنسية، كان من بينهن هيفاء وماريا ومروى اللاتي قمن ببطولة أفلام، ورغم فداحة ما قدمته المصريات الشعبيات لكنهن كنَ قليلات التأثير، ربما لأن الحرب أصبحت بلا مخططين أو قادة، فمحسن جابر مثلًا عاد لخطه القديم ونجومه القدامى الذين لم يتركهم أثناء اشتراكه في المعركة، وكان من بينهم لبنانيات كثيرات من تيار سيمون أسمر ظللن مستمرات معه طيلة هذه الفترة.

وظهر موسيقيون جدد لتيار بوسي سمير من بينهم محمد عبد المنعم وباسم منير وشريف الوسيمي، ومعظمهم لهم علاقة ما بفرق الفنون الشعبية، وكان الانتقال الحقيقي لطاقة الجنس الموسيقية هذه عند الرجال في أغاني المهرجانات.

وعلى أي حال روح المعركة استمرت بلا هدف أو قيادة وبمنظور آخر، فالمعركة انتقلت من سوق الكاسيت إلى أرض الواقع بعد ثورة 25 يناير عام 2011م، وتجلى ذلك في مليونية ضخمة للإسلاميين أطلق عليها إعلاميًا "جمعة قندهار"، واستولى الإخوان على الحكم وخرجت سما بكليبات استهزأت فيها برئيس الجمهورية محمد مرسي، وصلت إلى حد السب والقذف فيها، وقبلها أغنية عن حازم صلاح أبو إسماعيل، أحد المرشحين السلفيين لرئاسة الجمهورية، لكن صراع الشارع كان أقوى وانتفاضات الناس ضد حكم الإخوان وصلت أشدها حتى اندلعت ثورة الثلاثين من يونيو في العام 2013م لتعلن انتهاء المعركة وتخرس جميع الأصوات.