صراع الجوائز الأدبية.. النجوم والغنيمة والمؤسسة

شكري المبخوت - تونس
صراع الجوائز الأدبية.. النجوم والغنيمة والمؤسسة

صراع الجوائز الأدبية.. النجوم والغنيمة والمؤسسة


ليس أعجب من علاقة أدباء العربية، اليوم، ونقادها بالجوائز الأدبية، فما أن تصرح هذه الجائزة أو تلك بنتائجها حتى يبدأ حفل الطعن والنهش وأكل لحم الفائز، ويعود الشقاق حول جدارته بالفوز وأهلية اللجنة ومصداقية الجائزة نفسها ونوايا القائمين عليها، وغير ذلك مما يُشيع، في أحسن الأحوال، ظلالًا من الشك والريبة.

وسرعان ما يصبح العمل الفائز فرصة لإطلاق حبل الكلام على غارب الانتقاد من دون ضوابط معرفية أو مرجعية نقدية أو خبرة فنية بالنصوص، هذا إذا قرئ العمل، لأن الكثير مما يكتب ويقال لا ينم عن تعامل جدي مع الأعمال الفائزة. فنحن دائمًا بين حكمي القيمة الأسهل: نِعْمَ المدح المطلق وبئس الذم المطلق، بلا وسط أو تحليل وإقناع.

ولا يجدي رد أسباب هذه الهجومات المتكررة إلى أسباب نفسية نتيجة التنافس بين المتأدبين، كما لا تنفع في التفسير حالة التسيب الشائعة في مجال النقد الأدبي الصحفي والثقافي والأكاديمي.

ومن يلمس عدم صوغ هذه المواقف المختلفة في تقييم الأعمال الفائزة في سجال نقدي مخصب، يكشف في رصانة وتروية للنظر عن أوجه الإبداع أو القصور والإخلال في هذا العمل أو ذاك على أنه رأي أو حكم نقدي نسبي. إنها معارك ظرفية سرعان ما تنسى ويخرج منها القارئ والناقد وصاحب العمل، خاليّ الوفاض، حتى لكأن المقصود "تدمير" العمل الفائز وإلغاء قرار لجنة التحكيم، عبر محكمين آخرين يملكون فقط صفة الصحفي الناقد.

والأرجح أننا أمام إحدى صور تراجع الثقافة العربية والنقد الأدبي، وهي تتحول إلى أفكار تلقى على عواهنها، تصبح فيها الآراء ضجيجًا إعلاميًا ضمن ثقافة مشهدية استهلاكية فقدت بوصلة المعاني فيها وحوّلت كل شيء إلى سلعة سريعة الاستهلاك ضمن "ثقافة الفاست فود".

بيد أن المسألة تتصل بأحد الوجوه المطلوبة للتعامل مع الجوائز الأدبية. فالنظرة السائدة أنها في أبرز نماذجها تمثل ضربًا من الاعتراف الأدبي، قد يخلق في سماء الأدب "نجومًا" ورموزًا قد تنشئ مرجعيات للكتابة. وهذه النظرة- على وجاهتها- محدودة لأنها لا ترى إلا مكونًا واحدًا من منظومة أشمل وأكبر، وليس أدل على ذلك من أن الجائزة العالمية للرواية العربية المعروفة إعلاميًا بـ"البوكر" لم تُجعل للروائيين، بل أنشئت أساسًا للناشرين، الذين يحق لهم وحدهم ترشيح إصداراتهم من الروايات، بحسب ضوابط معلومة. فالتنافس الفعلي هو بين الناشرين للقيام بدورهم في نشر الأدب الروائي والاشتغال الجاد عليه، تحريرًا وتدقيقًا لغويًا لتطوير جودته.

وبصرف النظر عن مدى التزام الناشرين- حين يرشحون هذه الرواية أو تلك- بهذه المقتضيات، فإن ما نحتاج إلى التثبت منه هو الحالة الجديدة التي أوجدتها جائزة البوكر مثلًا باعتبارهًا- في تقديرنا- نموذجًا ناجحًا عن وظيفة الجائزة الأدبية. فقيمتها الحقيقية، في ظننا، لا تكمن في أسماء من فازوا بها أو أعمالهم، فحسب، بل تكمن أساسًا في أنها وُفقت في انتقاء مجموعة من الروايات تصطفيها للقراء عبر مرحلتي القائمتين الطويلة والقصيرة، ثم مرحلة الإعلان عن الفائز النهائي. ما خلق حالة انتظار لدى المتابعين للفن الروائي، الذين تقترح عليهم خلالها لجان التحكيم عددًا من الأعمال الأدبية تتيحها فعليًا لتقييم القراء وإبداء الرأي فيها.

وقد كثفت هذه الجائزة الاهتمام بالرواية، نشرًا ومتابعة نقدية ومطالعة، وشجعت الناشرين على إصدار الروايات، وإن كان، للأسف، على حساب أجناس أخرى مهمة كالشعر والقصة القصيرة والمسرح. فمن منظور الواقع المنتظر للجوائز، أصبح اسم الفائز وكتابه أمرين ثانويين.

ولا يعني هذا الملمح الإيجابي للجوائز أن آليات اشتغال لجان تحكيم الأعمال المرشحة سليمة دائمًا. فكم من عمل جيد "ظُلم" بعض الظلم، أو لم ينتبه إلى قيمته الجمالية والفكرية، بسبب اختيارات أعضاء اللجنة، أو رئيسها أحيانًا، أو الانحياز نوعًا ما إلى هذا الكاتب أو ذاك.

لكننا نجد كذلك الحالات المناقضة التي لا تحفل بالكاتب وشهرته، فتسند الجائزة إلى عمل بكر لم تعرف لصاحبه كتابات في السرد من قبل. بيد أن حالات الانحياز وحالات النزاهة والتجرد تثير كلها ردود فعل في مجال ما زال يحكمه الذوق المطلق مدحًا وذمًا.

وما نحتاج إلى الانتباه إليه أن المشكلة في مثل هذه الحالات لا تعود إلى الجائزة في حد ذاتها، بل إلى لجان التحكيم. فهذه اللجان- إذا سلمنا بتنوع مشارب المشاركين فيها وعدم انسجامهم فيما بينهم، وهو أمر ليس سلبيًا في حد ذاته- تشتغل في نطاق ضيق لا يمسح كل الروايات العربية بل يشمل الروايات المرشحة فقط، ما يجعل حكمها نسبيًا بالضرورة، فلا يحمل الفائز أمارات التفوق والجودة مطلقًا، كما لا يحمل غير الفائز أمارات الإخلال والضعف مطلقًا.

فنحن ننسى أن الإجماع في الأدب مما يطلب فلا يُدرك. والأدباء الحاصلون على جائزة نوبل في الآداب، والأغلبية المطلقة منهم من الذين أضافوا إلى الأدب الإنساني، وما يدور من لغط حولهم أحيانًا كثيرة، مثال جيد على ما نقول.

ورأينا أننا نحتاج إلى الخروج من النظر إلى الأفراد وغنيمتهم (قيمة الجائزة المالية) إلى رؤية ترتكز على الوظيفة الحقيقية للجوائز. فالجائزة الأدبية شأنها شأن تدريس الأدب والنقد الصحفي أو الأكاديمي والنوادي الأدبية والإعلان والإشهار عن الأدب والرقابة مؤسسات اجتماعية حاضنة للأدب، لا يتواصل وجوده إلا بها ولا يرتقي إنتاجها إلا بتقويتها ودعمها.

وما دمنا لا نتخذ هذا المظهر الاجتماعي الأدبي خلفية ننطلق منها في بناء تصوراتنا وأحكامنا ومواقفنا من الأدب وجوائزه، فسيعود اللغط بمناسبة الإعلان عن الفائز بهذه الجائزة أو تلك. فليس الأدب الجيد هو الحاصل على الجوائز- مهما كانت قيمتها- لكن الجوائز ضرورية لاشتغال مؤسسة الأدب.