جوائز الأدب.. المغنِّي والأغنية

يحيى يخلف - فلسطين
جوائز الأدب.. المغنِّي والأغنية


يُثار جدل في أوساطنا الثقافية حول الجوائز التي تمنح للمبدعين، خصوصًا تلك التي تمنح للرواية العربية. جدل لا مثيل له في الأوساط الثقافية في هذا العالم، فقد سبقنا العالم إلى تكريم المبدعين ومنح الجوائز منذ أكثر من قرن، إذا اعتبرنا جائزة نوبل- التي مُنحت لأول مرة عام 1901م- أول جائزة عالمية تستحق أن يؤرخ بها تاريخ الجوائز، على الرغم من شبهات رافقت مسيرتها.

بدأت فكرة منح جوائز مستقلة أو شبه مستقلة لها مجلس أمناء متاحة لكل عربي في مجال الإبداع منذ عهد قريب، لعلّ أولّها جائزة سلطان العويس المستقلة استقلالًا تامًا، منذ عام 1987م، وتلتها جوائز أخرى، منها فيما أعلم جائزة الشيخ زايد، التي يديرها مجلس أمناء، والتي انطلقت عام 2007م، وبعدها جائزة البوكر التي أطلق عليها: الجائزة العالمية للرواية، والممولة من هيئة أبوظبي للسياحة والثقافة، ويديرها مجلس أمناء، وانطلقت عام 2008م، وأخيرًا وليس آخرًا جائزة كتارا للرواية العربية التي أطلقتها مؤسسة الحي الثقافي– كتارا في العام 2015م، وبالطبع هناك جوائز أخرى لكنّها لا تكتسب الأهمية نفسها التي اكتسبتها الجوائز المذكورة في مجال الرواية.

كما توجد جوائز محلية حكومية تقديرية وتشجيعية أو مستقلّة لا تثير مثل هذا الجدل، وليس هنا مجال تقييمها.

على الرغم من تعدد مجالات بعض هذه الجوائز: "شعر، قصة قصيرة، آداب، فنون، دراسات اجتماعية وإنسانية"، فإن الجدل الدائر- كما يبدو- ينصب على الجوائز المتعلقة بالرواية، ما بين الاستحسان والاستهجان حول من يستحق الجائزة، ومن لا يستحقّها، وهل الجائزة موظّفة يشوبها أهداف معيّنة  أم مستقلة نظيفة، وإذا كانت لجنة التحكيم منحازة وغير حيادية أو نزيهة وحيادية.

الجدل يحدث بعد الإعلان عن نتائج الجوائز، وهو طبيعي، ولا ضرر من حدوثه، إن سلبيًا أم إيجابيًا، لكنّه لا يرقى الى مستوى فكري، ولا يندرج في إطار المعارك الفكرية التي كانت تحدث في زمن العمالقة، كالتي كان طرفاها طه حسين والعقاد، حول الخيال في "رسالة الغفران" لأبي العلاء المعري، أو المازني وطه حسين من جهة، والمازني وعبد الرحمن شكري من أخرى حول النشوء الطبيعي للأدب المصري، وقضايا أخرى يزخر بها تاريخ الأدب العربي، ومنها نقاش الهوية: العروبة، الإسلام، الفرعونية، القديم والجديد، قضايا المرأة، أدب المهجر، وغيرها من القضايا التي طرحها ذلك العصر.

مهما يكن من أمر، فإن الحديث عن الجوائز سيستمر ما دامت فكرة الجوائز العربية لا تزال حديثة العهد.

أعتقد أنّ جوائز كبرى لا تزال  تصنّف أحيانًا بأنها "سياسية"، وحتى "نوبل للآداب"، صنّفها العرب أنها سياسية عندما منحت للإسرائيلي شموئيل يوسف عجنون عام 1966م مناصفة مع الكاتبة اليهودية السويدية نللي زاكس، وقد كشف أرشيف الجائزة الذي سمح بنشره بعد مرور خمسين عامًا على صحة الشبهات السياسية وانحياز بعض أعضاء أكاديمية الجائزة وضغوط مؤسسات، ووزارة الخارجية الإسرائيلية، لفوز عجنون بجائزة نوبل، الذي استغلته إسرائيل واستثمرته سياسيًا ودعائيًا، حتى إنها أغلقت الشارع الذي يضم بنايته في القدس الغربية المحتلة عام 1948م وحوّلته إلى حديقة، وضعت على مدخلها لافتة تقول: "صمتًا فإنّ عجنون يكتب!".

لم تسْلَم جائزة نوبل من رفض أدباء ومفكرين كبار إياها، إذ رفضها الكاتب والفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر، والكاتب والروائي الروسي بوريس باسترناك، وقبلهما الكاتب الشهير جورج برنارد شو، على الرغم من أنّ جائزتها تُناهز المليون دولار.

وعليه، فإنّ ما يثار من جدل سلبي يستنكر نتائجها لا ضرر منه، فهو قد يكون مفيدًا يدفع هذه الهيئات لحسن اختيار مجلس أمنائها، والعمل على تحسين أدائها، والانتباه إلى أنّ جوائزها تحت المجهر.

من جهة أخرى أًعيد الاعتبار لكتاب مشهورين- تعرضوا للإقصاء والتهميش من سلطات بلادهم- من خلال الجوائز، والحصول على تكريم، كما نال مبدعون شباب مغمورون تقديرًا واعترافًا بمواهبهم.

ونجحت الجوائز في لفت أنظار القراء إلى أعمال تستحق القراءة، سواء من المشرق العربي أو المغرب العربي أو من دول الخليج، وتحقق شيء من مقولة الكاتب والناقد الراحل رجاء النقّاش: إنّ الثقافة العربية هي جامعة الدول العربية، وليس المبنى الذي يقع على الشاطئ الشرقي لنهر النيل.

في الماضي كان يتكسب كبار الشعراء بشعرهم ويمدحون السلاطين والحكّام من أجل المال والهبات والأعطيات، ومنهم المتنبي الذي كال المديح لسيف الدولة، وفي الوقت نفسه مدح كافور الإخشيدي، ثمّ هجاه عندما لم يجد عنده الجاه والمال.

ومثله فعل كثيرون، فقد كان بعض الشعر مهنة للتكسب في بلاط السلاطين، وقديمًا قالوا في ذلك: أدركته مهنة الأدب، ومع ذلك ظل المتنبي في تراثنا أهم شعراء العربية على مدى العصور.

لعلّنا نعظّم شعراءً كبارًا يمتلكون الأنفة والكبرياء رفضوا التكسب ومدح السلاطين، ومنهم ابن زريق البغدادي، الذي ضاقت به الحال فهاجر إلى الأندلس، فهاله نفاق شعراء عصره في بلاط الحكام، وأبى أن يتّخذ من شعره مهنة للمديح والنفاق، فجاع ومرض وتوفي، وترك لنا قصيدته التي وصفت بأنّها يتيمة ابن زريق، التي كتبها إلى زوجته وحبيبته في بغداد، وعندما توفي وجدوها تحت وسادته، ومطلعها:

لا تعذليه فإنّ العذل يولعه.

ومنها:

أستودع الله في بغداد لي قمرًا      بالكرخ من فلك الأزرار مطلعه

اختفت ظاهرة التكسب في زمن الدولة العثمانية، فلم يعد هناك مكان للشعر العربي في البلاط العثماني.

أما في العصر الحديث فلم يعد المديح مصدرًا للتكسب، وإن لم يخلُ الأمر من بعض الاستثناءات، فالجواهري مدح بعض الملوك والحكام، والشاعر عبد الواحد عبد الرزاق مدح الرئيس العراقي، وظل يمدحه حتى بعد رحيله، وكان ممن فازوا بجائزة صدام حسين للآداب عام 1987م. وعلى ذكر هذه الجائزة فإنّ محمود درويش قد رفضها هي وجائزة القذافي عندما عرضتا عليه، في حين قبلهما العديد من الأسماء المعروفة.

                ***

في العصر الحديث لم يعد الأدب مهنة يُقتات منها، فيتعين على الكاتب أن يشغل وظيفة ويتخذ الكتابة هواية، على الرغم من أنه في حقيقة الأمر يتقن الكتابة كحرفة، وقد يشتهر وتروج أعماله، لكنه لن يستطيع التفرغ وكسب ما يسد حاجته.

وأعتقد أن المبدع في كثير من دولنا العربية لا يستطيع أن يكتب في خانة المهنة بجواز كاتب أو شاعر أو روائي.. إلخ.

وغالبية من الكتاب يكدحون كعمال المناجم، وأغلب دور النشر شديدة البخل على الكاتب، ولولا شعلة الجنون الفني لما سرد قاص أو روائي، ولما نظم شاعر.

من هنا تأتي الجوائز بقيمتها المادية والمعنوية إنصافًا وحافزًا لتعظيم شأن الكتابة، ووضع الإبداع في المقام العالي الذي يستحق.

وتظل الجوائز نظامًا معمولًا به في الغالبية العظمى من دول العالم، ولا يندرج منح الجوائز ذات القيمة المادية للمبدع شكلًا من أشكال التكسب، بل أحد حقوق إبداعه الذي يشكّل إضافة نوعية.

تجربة الجوائز العربية التي تتزايد جديدة نوعًا ما، تتنافس فيما بينها.. تصيب أحيانًا، وتخطئ أخرى، ومن خلال متابعاتي فإنّ معظم الأخطاء تنجم عن سوء اختيار لجان التحكيم من نقاد هواة، أو ليسوا في المستوى المطلوب، أو منحازين وغير حياديين.

ولا يرجع العيب هنا إلى الجائزة ذاتها، بل إلى مجالس أمنائها ولجان تحكيمها.. العيب في المغنِّي وليس الأغنية.