الدور الصغير والممثل الكبير

أنور شفيعى
الدور الصغير والممثل الكبير


أنور شفيعي- تونس

في بداية مسيرتي الفنية قمت بتجربة في مسرح الشباب، فتناولت إحدى حكايات بيدبا الفيلسوف لدبشليم الملك، التي كتبها ابن المقفع في كتابه الشهير "كليلة ودمنة"، فقمت بتوزيع أوّلي للأدوار، بناء على انطباع أولي لاستعدادات الممثلين، بعد سلسلة من التمارين التكوينية الموجهة، فاتضح لي أن القائم بدور الأسد لا يصلح في أفضل الأحوال إلا لدور الأرنب، فقمت بخلعه عن "عرشه" وأسندت له دور الثور الأبيض، لكنه لم يرضَ بهذه "الإهانة" وحاول أن يثنيني عن قراري، معربًا عن استعداده للقيام بدور الديناصور العملاق، إن وجد، وأمام إصراري على موقفي ذهب ليلًا إلى منزل كاتب النص وترجاه التدخل لإرجاعه إلى "منصبه"، فأفهمه أن توزيع الأدوار من مهام المخرج، تبعًا لرؤيته الإخراجية، فقام من الغد بمقابلة مدير المؤسسة وروى له ما تعرض له من مخرج "ظالم"، فابتسم المدير ووعده بالتدخل أخذًا بخاطره.

كانت التمارين على المسرحية تتوالى، وهو يزداد همًا، حتى أصبح دائم التفكير قليل التركيز، وزملاؤه في المسرحية بهمساتهم لم يرحموا عزيز قوم ذل.

يوم العرض الأول كان صاحبنا ينظر إلى القائم بدور الأسد غاضبًا طوال العرض، وقد أبدع في أداء دور ثور حانق، فعل الأسد ما فعل في جده الثور الأبيض، كما رواه لنا ابن المقفع.

بعد العرض شكرته على أدائه المتقن، وأفهمته مقولة ستانيسلافسكي، التي يقول فيها: (لا يوجد دور كبير وآخر صغير، بل يوجد ممثل كبير وممثل صغير، فالمسرح هو فن جماعي بامتياز، ينصهر فيه الفرد داخل المجموعة، أساسه الجهود المتناسقة والمتداخلة التي يبذلها عدد كبير من الفنانين من مختلف الاختصاصات، ويجب على الممثل أن يتبنى الخط العام الذي حدده المخرج ويطوع أداءه ليتماشى مع أداء زملائه الآخرين في المسرحية، ذلك أن طبيعة عمل الممثل تستوجب منه نكران الذات والانضباط للنسق العام للعرض، وكبح شهوة الظهور على حساب الغير أو على حساب العمل المسرحي نفسه. وقد ترك ستانسلافسكي وصايا كثيرة في هذا الصدد، منها عبارته المأثورة "لا تحبوا أنفسكم في الفن، بل أحبوا الفن في أنفسكم"، وفي هذا الصدد نستحضر هذه الواقعة التي رواها عنه الممثل "فسيفولود فيربيتسكي"، أحد أعضاء فرقته، حيث سحب ‏ منه دور العقيد روستانيف بعد التمرين الأخير لمسرحية "قرية ستيبانتشيكوفو"، وأسند الدور إلى "ماساليتنوف"، فانتظر أفراد الفرقة ردة فعله، لكنه تقبل قراره بصدر رحب وأذعن لمشيئته كمٌخرج، رغم أنه كان يعتبر دور روستانيف كدور الدكتور ستوكمان من أفضل الأدوار، التي أداها في حياته، ولم تسمع عنه كلمة احتجاج أو استياء حول الموضوع، فما دام المخرج يعتقد أنه لا يصلح للدور فمعنى ذلك أنه فعلًا لا يصلح).‏

هناك الكثير من الممثلين في العالم من مهنة المسرح والسينما، اشتهروا بأدوار صغيرة، لكن لم يرفضها الكبار، مثل الشخصية التي أداها الممثل العالمي الراحل مارلون براندو في شريط (القيامة الآن) للمخرج الكبير فرانسيس فورد كوبولا، الذي أنتج سنة 1979، وهو دور صغير لكنه قبل به وأداه بطريقة مبهرة وساحرة.

ولم يشذ المسرح والسينما المصرية عن هذه الظاهرة، إذ اختص الكثير من الممثلين في أداء الأدوار الصغيرة، وقد نعرفهم ولا نعرف أسماءهم مثل عبد الغني النجدي، الذي تميز بلعب دور البواب، ورغم المشاهد القليلة التي يظهر فيها إلا أن أداءه التلقائي والصادق جعله يرسخ في أذهان عشاق السينما، فلا أحد ينسى الدور الذي أداه في فيلم "بين السماء والأرض" لصلاح أبو سيف سنة 1960، أو أدواره الصغيرة مع إسماعيل يس، وقد اشترك النجدي في أكثر من مئة شريط كانت مشاهدها لا تتجاوز اثنين أو ثلاثة، وكذلك محمد الديب الذي عُرف بأدواره الصغيرة منذ منتصف الثلاثينيات، مثل ظهوره القصير في فيلم "الشاطر حسن"، الذي عٌرض سنة 1948، ولم تختلف مشاركاته المسرحية حجمًا ولا طولًا مع الفنان نجيب الريحاني.

يتجه الممثلون المبتدئون إلى حرق المراحل بالرغبة في أداء الأدوار الأولى، معتقدين أن حجم الدور مرتبط بالنجاح، في حين أن مساحة الدور الصغير قد تكون دافعًا للتألق بالتركيز على الشخصية ودراستها من جميع جوانبها، وقد لا يتوافر ذلك عند تقمص الدور ذي المساحة الكبيرة، فلا يتمكن الممثل/ المؤدي من الإمساك بروح الشخصية في مسارها الدرامي الطويل، فيتشتت تركيزه ولا ينجح في اللحاق بها. ورب دور ثور ضعيف أفضل من دور ملك الغاب.