المنهج السلبي عند جروتوفسكي.. بين تحرير الأداء وحدود التمثيل

حسام مسعدى - تونس
المنهج السلبي عند جروتوفسكي.. بين تحرير الأداء وحدود التمثيل


حسام مسعدي- تونس

 

تمهيد:

على غرار التجارب الفنية المهمة والمؤثرة، مثلت تجربة مسرح المختبر مع "جيرزي غروتوفسكي" مبحثًا مفصليًا في الممارسة المسرحية باعتبار الأسئلة التي طرحها، لا سيما سعيه المنهجي والدؤوب للإجابة عن سؤال ما المسرح؟ أي ما الذي يميز هذا الفن عن باقي الممارسات الفنية؟ هذا المنطلق مكّنه وبعد بحوث دامت سنوات طويلة من صياغة أسلوب خاص به في التعامل مع الممثل أساسه "المنهج السلبي"، وذلك في إطار ما سمي "مسرح المختبر"، الذي تأسس في بولندا سنة 1959.

في معرض حديثه عن تجربته المسرحية يصف "غروتوفسكي" طريقته في العمل مع الممثل بالسلبية، بمعنى تجريد الممثل من أحكامه المسبقة ومعارفه المكتسبة حول الأداء وتخليصه من الفكرة التي كوّنها من خلال تجربته الخاصة عن المسرح. وغايته في ذلك إعداده ليستقبل ويكتشف طاقاته الجديدة، لا أن يعيد تأهيله لتقديم مهاراته التي تعلمها، وبذلك تأخذ صفة السلبية معنى الحذف والسلب والتهديم للعوائق والحواجز التي تفصل الممثل عن طاقاته الحيوية الكامنة بجسده وصوته.

في فكره وقناعاته تجد إيمانًا لا محدودًا بالمنهج السلبي، وذلك لاعتقاده أن ما تراكم من خبرات في جسد الممثل يتحول بمرور الزمن إلى قيد وقالب يسجن فكرة التمثيل ويضعها في حدود لا يمكن تجاوزها، لهذا يقدم منهجه كأداة تحرير وتعرية حتى يمكن طاقات الممثل من الانطلاق نحو أفق مغاير وهو ما يقره بوضوح في هذا القول: "نحن لا نريد تعليم الممثل مجموعة مهارات متفق عليها، أو نعطيه حقيبة حيل، وليست طريقتنا استنتاجية بغية جمع المهارات، عندنا كل شيء يتركز في نضج الممثل ويعبر عن هذا النضج جهد مفرط وتعرية تامة وكشف النقاب عن كنه الإنسان" (1)

مع غروتوفسكي يوضع الممثل في طريق يستدعي السير فيه شروطًا، أهمها الاقتناع بأن طاقة أخرى مجهولة بإمكانها تحريك جسد الممثل، وبالإمكان اكتشافها والتحكم فيها، كي تستثمر في توليد روح جسدية خام، خاصة الصفاء، متجردة من قوالب الاجتماعي واليومي، ورافضة مجموع التعبيرات واللغات التي علمتنا إياها التقاليد والأعراف المتوارثة، وفي هذا الطريق ينزع الممثل الماكياج والأقنعة والديكورات والمؤثرات، التي من شأنها تهيئة الراحة والطمأنينة للجسد، وترمي به في مغامرة مجابهة ذاته دون سند، ليجد وسيلة واحدة في مقابل المساحة الفارغة، هذه الوسيلة هي الجسد. وغاية غروتوفسكي- في كل ذلك- الوصول إلى ما سماه "الممثل المقدس"، هذا المتطهر من أدران المسرح الغربي، مسرح "الممثل العاهر"، حيث تباع مهارات الممثلين فوق الركح في جو من التدنيس. لهذا يدفع المنهج السلبي الأجساد إلى التضحية بلا حساب ولا اقتصاد، بكل طاقاته وبأعمق جزئياته، حيث الممثل في لحظة المجابهة التي لا يسعى فيها إلى أي إغراء أو تبجح أو افتخار بمظهر، مهما كان، فلا يلفت الممثل "النظر إلى جسمه، بل يفنيه ويحرقه ويجعله لا يبدي أي مقاومة لأي دافع نفسي، فهو إذن لا يبيع جسمه بل يضحي به" (2)، فالتضحية عند غروتوفسكي أنبل غايات الممثل، ومنطلقها الأساسي التضحية بالمكتسبات والمعارف، ومن ثمّ القفز بالجسد نحو إحراجات قصوى، متطرفة تختبر حدوده وتستكشف روحه المخفية.

 

1.    عوائق الأداء التمثيلي

في إطار بحوثه المسرحية لبلورة طريقة عمل للممثل من أجل فتح أفق مغاير لهذا الفن التمثيلي، يقدم غروتوفسكي قراءة ذات أبعاد نقدية للممثل في المسرح الغربي ويحدد فيها ما اعتبره حواجز ومعوقات تحد من طاقة الممثل الإبداعية، ومجمل هذه المعوقات لخّصها في مصطلح "الممثل العاهر"، والعهر بالنسبة إليه هو أن تقدم شيئًا للآخرين هو ليس من إبداعك، بل وتدعي أنه ملكك، فتمتع الآخرين بما ابتكره غيرك، والمقصود هنا تلك القوالب التي يتعلمها الممثلون ويبيعونها للجمهور بشكل متكرر وخالٍ من الإبداع الذاتي، الحر، التلقائي. وفي المسرح الفقير يشير للممثل العاهر بكونه الشكل المثالي والخلاصة العامة لمختلف الحواجز التي تعوق خلق طاقة جسدية حية أثناء التمثيل، لهذا يقترح أسلوب حذف كل ما من شأنه أن يحوّل الممثل إلى عاهر، والغاية من ذلك إحداث قطيعة مع نوع جامد من التمثيل، والتخلص مما ترسخ كقالب وجب على الممثل الخضوع له، لهذا فإنه يرسم خطوطًا واضحة تفصل المقدس عن المدنس، أثناء ممارسة التمثيل، ويشير إلى أن الشيء الجوهري هو في مقدرة الممثل على إزالة كل عنصر معوق، كي يستطيع تخطي كل قيد.

يعطي غروتوفسكي لهذه المعوقات أهمية بالغة، لغاية الوعي بأهمية التخلي عنها والعمل على تحصين الجسد من أخطارها، وفي تجربة المسرح الفقير تعد هذه الشوائب بمثابة الأمراض، التي لا يصح التمثيل إلا بالانتهاء منها، وخطورتها تكمن في صعوبة ترويضها حتى يتم تجاوزها، على اعتبار أنها ملتصقة بالجسد ومترسخة فيه، وما أن تدفع حتى تعود للظهور من جديد.

فهو لا يكتفي في تشخيصه لأمراض التمثيل بالحديث عن الجاهز والموروث والمكتسب، بل يكشف عن مأخذه تجاه المقاربات والتجارب المسرحية، التي أعطت للممثل مهام جمالية، وأوكلت إليه وظيفة حامل الخطاب، التي يعتبرها دخيلة على فن الممثل، فليس من اختصاصه تبليغ رؤى وتصورات المخرج والكاتب، فالممثل- وقبل هذا- عليه أن يخوض معركة لبُّها المجابهة، كي يعرف طاقاته الحيوية الكامنة ويعمل على إخضاع جسده لصفائها، حتى يخلص في النهاية إلى بناء منظومة من الإشارات والعلامات ذات الأبعاد الطقوسية، وهو أمر يتناقض مع النظريات التي تزج بالممثل في مطامح التبليغ الجمالي.

2.    مسارات تحرير الأداء

سلك غروتوفسكي طريقًا مختلفًا في تناول فن الممثل، تدفعه في ذلك رغبة الإجابة عن سؤال: ما التمثيل؟ أي ما الجوهري والضروري بالنسبة للممثل لحظة الأداء. لخوض هذه المسألة كان لا بد من تخليص الممثل من عوائقه وقيوده، كي يتحرر منها نحو جسد منفتح، تذهب فيه طاقاته إلى أقصاها.

في هذا السياق تحدث عما سماه "المغامرة الكبرى" (3)، لحظة المكاشفة وإطلالة الممثل على مداراته المجهولة، عندما يقف لمواجهة ذاته ومجابهتها بثقة تامة، هذه المجابهة هي لبُّ الفعل في المسرح، وهي اللقاء الحي والحيوي مع الطاقات العضوية، التي خزنت في ذاكرة الجسد وهذه العملية تعد مغامرة مهمة، للاعتبارات التالية:

- المكتسبات التي يملكها الممثل مترسخة في جسده، وتحوّلت- بمرور الزمن- إلى جزء منه، وبالتالي فإن حذفها يتطلب جهدًا مؤلمًا واستثنائيًا.

- المنطلقات التي يرتكز عليها فعل الممثل أثناء التمارين معلومة، أما الغايات التي يبحث عنها فهي مجهولة، وعليه فإن السير نحو المجهول يتطلب شجاعة وإرادة لا محدودة، فكل تراجع يقوض المسار كله.

عمل غروتوفسكي مع الممثل هو أشبه بعمل باحث في الحفريات، همه النبش وإزالة الغبار والأتربة عن أثر عظيم، فالممثل- وبالأسلوب نفسه- يعيش تجربة استكشاف لجسد آخر فيه من أجل أداء طابعه، العلامة والإشارة النقية، هو جسد آخر، بروح أخرى لذات الممثل، فهو في رحلة تقصٍ دائمة وشاقة من أجل هذا الهدف الذي يبحث حقيقة عن "الآخر الذي فينا، في ضميرنا الإنساني والذي له وجود في طيات كينونتنا البشرية، أي قبول النفس والمحاورة معها من دون التستر وراء الأقنعة الثقافية أو الاجتماعية" (4).

إن فعلًا تامًا نابعًا من كياننا لا يمكن الحصول عليه إلا بهدم الأعراف والتقاليد والعادات الجسدية، التي ترسخت فينا، وهذا الفعل التام مطمح أساسي في بحث غروتوفسكي، لأن فرادته كفعل هي ما يجعل منه مدارًا لعمل المنهج، فعل تام، فعل كامل النقاء ينجز بتجمع كل طاقات الممثل في لحظة واتجاه واحد، وهي لحظة نادرة لا تحاصر إلا بتحضير واستعداد مسبق واستثنائي وهو حال الممثل مع غروتوفسكي ونستحضر في باب تفسير هذا المعطى ما ينقله قاسم بياتلي عنه، الفعل التام هو "الذي تمتد فيه الطاقات المتعددة وفي تناغم وفي آنٍ واحد من كينونة الإنسان الفرد: الطاقة البدنية، النفسية، الفكرية التي يتم تفعيلها في الفعل الكلي" (5)

أثناء رحلة التقصي هذه يتوجه غروتوفسكي إلى الجسد– الذاكرة، هذا الوعاء الذي يحتضن الكيان بأكمله، يستوعب خبرات الممثل ويخزنها عنده بآثارها واستتباعاتها، وكل عملية تستهدف هذا الوعاء، إنما تكشف عن إحراجات الممثل وطاقاته المدفونة، فالجسد/ الذاكرة عنده منطقة حيوية ومرآة صادقة للفعل الفيزيولوجي المقدم من خلالها، نعرف وعي الممثل وإرادته ومدى إيمانه بفعل المجابهة.

لخوض غمار هذه العملية يضع الجسد/ الذاكرة كأرضية والفعل العضوي كهدف وجب تحقيقه، وتذوق مشقة الوصول إلى منابعه الأولى، وذلك كي يتخطى جسد الممثل عوائقه نحو الظفر بلذة الانعتاق والتحرر من كل السلطات، فالأفعال العضوية تنتج بعد تجاوز مراحل مختلفة، متسلسلة أحيانًا ومتشابكة أحيانًا أخرى فتحضير الجهاز الصوتي والجسدي والمصالحة مع الذات وعيوبها، كما التسليم والثقة المطلقة في المنهج، هي عتبات ولحظات يستغرقها الممثل بأشكال وطرق مختلفة من أجل أن يهيئ للقيام برحلته نحو حالة خاصة، كل الأفعال فيها عضوية أي الحالة التي يصبح فيها الجزئي من الحركات منبعه الكلي من الطاقات الجسدية ونسترشد هنا بتفسير لغروتوفسكي يقول فيه: إن "كل رد فعل لليد يبدأ من اليد وليس من الجسد بأكمله، هو عبارة عن إيماءة بالفعل، لكن ذلك هو مزيف وهناك الكثير من الممثلين ممن يفعلون ذلك. ولكن لو كان رد الفعل منطلقًا وباستمرار من داخل الجسد ثم ينتهي في اليد، فإن ذلك هو رد فعل حي" (6)

إجرائيًا يقترح غروتوفسكي من التمارين البلاستيكية وأخرى جسدية كأدوات مساعدة في مسيرة تحرير الجسد، وهو الذي يبتغي التخليص التام من الخوف والتردد، وهي نوازع داخلية من شأنها تكبيل عاطفة الممثل وإرادته في المغامرة. فالتمارين البلاستيكية هدفها تجذير الدقة في الفعل والحركة، ما يتطلب تدريبات تعلم إتقان الإخلاص في إنجاز التفاصيل وتوسع عند الممثل إدراكه أهمية الجزئيات وكيفية بنائها، للتعرف في النهاية على القدرات الذاتية في إنشاء كل جزء بدقة متناهية. وتكاملًا مع هذه الغاية يمر الممثل بالتمارين الجسدية التي أبدعها غروتوفسكي، انطلاقًا من الطقوس الشرقية القديمة التي تستغل التركيز العالي على الذات بهدف تحفيزها نحو الثقة المطلقة بما تمارسه، حتى يتسنى للممثل خوض عملية التحرير بفاعلية وجدوى.

إن التمارين بالنسبة له هي الفضاء الوحيد التي تنتعش فيه جاهزية الممثل وتصل إلى حدودها القصوى، في جو من الانفتاح والاستنفار المطلق نحو مقاومة الحواجز التي تسطف  [م1] كجدران للحد من رغباته في الفعل والتعبير الجسدي الحر والمتحرر من القيود الداخلية والخارجية، لهذا فإن توافر عنصر الثقة والدقة يُموضع الممثل في اتجاه يعكس صرامة المنهج ونجاعته.

 

حدود التمثيل

 

ما حدود التمثيل عند غروتوفسكي؟ أو ماذا بعد التمثيل؟ محاولة لتجاوز المفاهيم والتعريفات، التي تناولت هوية الممثل ويغامر غروتوفسكي بخوضها مقترحًا فضاء جديدًا لفنون الأداء، وسمة هذا الفضاء هي المغامرة والانفتاح والشمولية، أو ما اختصره في "فن البرفرمانس"، بمعنى الأداء المتحرر والمنفلت عن الحدود "خارج كل الأطر والأجناس الفنية" (7)، وهي لحظة لإنكار القواعد تتجاوز الحاصل المعرفي عند الممثل، وتذهب نحو البدائي والطقسي، و"الطقس هو برفرمانس" (8) هكذا يقول غروتوفسكي، فهو يقدم التمثيل في لحظة انتفائه، ويقدم الممثل في لحظة حضور خالص، خالٍ من التمثيل أي فعل الأداء دون أقنعة وأسلحة هو فعل يتجلى فيه الممثل كطاقة حرة، حضورها كافٍ بالنسبة لمنهج غروتوفسكي، فالبرفيرمير هو رجل فعل فقط. ولعل التمثيل في تصورات غروتوفسكي هو مسار لتحسس ومعرفة الجزئيات والتفاصيل التي تحيط بالممثل وجسده عند المجابهة وتتأتي أهمية الجزئي من كونه يفعل عملية تطوير الوعي الداخلي بالممارسة وأسسها العميقة أي الإطلالة عمليًا على خفايا الجسد وميكانيزماته الداخلية التي بدورها يمثل اكتشافها إحدى لحظات تحول الوعي التي تنقل كل الطاقات إلى وحدة دافعة ومحركة للفعل والحضور، هي وحدة مهمة في مسار الحفريات التي ينخرط فيها الممثل، وتشمل ماضيه الطفولي والثقافي والاجتماعي يفسرها غروتوفسكي كلحظة للكشف عن "الآخر- الجد- الأم ويمكن لصورة معينة، أو تذكر تجاعيد معينة، أو صدى لون صوت بعيد معين. يمكن أن يسمح لنا بإعادة بناء جسدية ما، وستكون تلك الجسدية في بداية الأمر عبارة عن جسدية أحد ما لا نعرفه ومن ثم فيما بعد تذهب إلى أبعد من ذلك وأبعد وأبعد، لحد أن نصل إلى جسد الفرد المجهول، جسد الجد الأول" (9).

إن مهمة البرفرمير غير مهمة الممثل، فالأول يضع التمثيل كمرحلة وجب تجاوزها، وعند غروتوفسكي عقبة يسعى لإلغائها حتى يحصل على فضاء جديد للجسد، فضاء بلا قيود، يسمح بتناول فكرة التمثيل انطلاقًا من مبدأ حذفها، ومن ثم الانطلاق من أثرها، فالبرفرمير يتوجه إلى غاية أوسع تشمل البحث في الأنثروبولوجي المتمكن من جسده والكامن فيه، أي أنه يقوم بدراسة وبحث تطبيقي بجسده على جسده، ليكشف على الهوية التي ألغاها التمثيل وخزنت في الجسد/ الذاكرة، أما الثاني أي الممثل فيقف عند حدود المماثلة، يخلقها ويجسدها، وهي مطمحه منذ اللحظة الأولى في عمله، فإذا أدركها ينتهي عندها بحثه. أما غروتوفسكي فيعتبر أن "أحد المداخل نحو طريق الإبداع تكمن في الكشف عن جسدية فينا، متوغلة في القدم، تربطنا بها علاقة سلفية، غابرة، قوية، وعندها سوف لن نجد أنفسنا لا في الشخصية ولا في اللاشخصية" (10) بمعنى الإجابة عن سؤال من نحن؟ وهو في الحقيقة سؤال هوية يستلزم رؤية الممثل لذاته، بتفاصيلها وقواها الداخلية والخارجية، أي الخصوصية التي تميزه عن الآخرين، وانطلاقًا من الخصوصي ينبع فعل التمثيل ويؤجج طاقاته.

في البرفرمانس، يتم تفعيل كل الطاقات لاستعادة المفقود، لا سيما الذي أُنجز وأُتلف أو تم تسطيحه مع الزمن، إنها عملية تحفير لتوليد الإشارات الطقسية التي أبدعها أجدادنا، وكانت في وهلتها الأولى مفعمة بالحياة وصافية، نقية، كيف يمكن للممثل أن يعيد لها ذات الحياة وذات الإيقاع لهذا ينزع غروتوفسكي إلى الهدم، هدم المتراكم في جسد الممثل.

يسلك غروتوفسكي مساره نحو فعل طقسي صميم ويتسلح بتمارين تسهّل على الممثل إمكانيات الولوج إلى فضاءات الإشارات الطقوسية النابعة من الإنثروبولوجي والثقافي فينا، وهذه التمارين توجه عمله من أجل ابتكار عوالم البرفرمانس، أي خلق حالة من التجليات التي تنبع من جسدية متحررة، ويمكن أن نذكر التمارين الاهتزازية التي تحفر في الاندفاعات الداخلية لدى الممثل، والتي تستفز مخزون الجسد/ الذاكرة، وهذه التمارين "هي نوع من أنواع الأغاني الطقوسية القديمة، والتي ترجع بالدرجة الأولى إلى التراث الأفروكاريبي" (11)، إذن فالتمرين عند غروتوفسكي محفز ومنشط غايته خلق الإشارة التي أخفيت مع الزمن في جسد الممثل. ويعمل بانتقائية ودقة عالية في اختيار الأغاني المثيرة للذبذبات الصوتية النابعة من عمق كيان الممثل، ومن الاندفاعات التي ينتجها جسده، فالتراث الغنائي الطقوسي طاقة مؤثرة على الصوت والجسد والإحساس بما يفرز حضورًا للممثل مختلفًا جديدًا ومبتكرًا، فالبرفرمير يقدم نفسه للأغنية لينغمس فيها ويبحث في ثناياها ومساراتها ومنعرجاتها، فما أراده غروتوفسكي من خلال هذه التمارين الاهتزازية هو البحث عن "الطاقات التي توجد في تلك الطقوس" (12)

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

البيبليوجرافيا

(1)   جيرزي جروتوفسكي، نحو مسرح فقير، هلا للنشر والتوزيع، القاهرة سنة 2012، ص 14

(2)   نفس المرجع السابق، ص 32

(3)   بياتلي قاسم، غروتوفسكي بين الفعل العضوي والطقوسية، الهيئة العامة المصرية للكتاب، القاهرة سنة 2012، ص 26

(4)   نفس المرجع السابق، ص 27

(5)   نفس المرجع السابق، ص 28

(6)   نفس المرجع السابق، ص 54

(7)   نفس المرجع السابق، ص 22

(8)   نفس المرجع السابق، ص 22

(9)   نفس المرجع السابق، ص 24

(10)  نفس المرجع السابق، ص 24

(11)  نفس المرجع السابق، ص 28

(12)  نفس المرجع السابق، ص 29


 [م1]تصطف