أزمة الثقافة: أصيلة أم عابرة؟

رمضان عبد الحفيظ- مصر
أزمة الثقافة: أصيلة أم عابرة؟


رمضان عبد الحفيظ - مصر

يعد علم الثقافة من أهم العلوم، ذلك أن التحولات المعرفية من شأنها أن ترتقى بمجتمع ما، بينما يؤدى جمودها وتبلدها إلى مزيد من التخلف.

فالثقافة عبارة عن المحيط الذى يؤثر فى الإنسان فيشكل أسلوب حياة الفرد الذى يعيشه، ليؤدى دوره داخل المنظومة الاجتماعية- أى داخل كيان المجتمع- التى ظهرت بين قديم المجتمعات وحديثها، فهى تشمل المقاييس الفكرية تجاه الأفكار والأشياء الأخرى.

وهى المعبر الحقيقى عما وصلت إليه البشرية من تقدم فكرى، فمن خلالها يتم رسم المفاهيم والتصورات، كما يتم رسم القيم والسلوك، وقد ارتبطت بالوجود الإنسانى ارتباطًا متلازمًا تطور مع الحياة وفقًا لما يقدمه الإنسان من إبداع وإنتاج فى شتى المجالات، فالثقافة هى المنظومة المعقدة والمتشابكة التى تتضمن اللغات والمعتقدات، والمعارف والفنون والتعليمات والقوانين والدساتير والمعايير الخلقية والقيم والأعراف والعادات والتقاليد الاجتماعية والمهارات التى يمتلكها أفراد مجتمع معين.

وقد أدرك الإنسان أهمية الثقافة فى تكوين ذلك الوعى، فأسس وجودها عبر السنين من خلال التراكم النوعى والكمى للفعل الثقافى والإنسانى، فما تركته الثقافات القديمة كالمصرية والإغريقية والصينية، يُعدّ صورة واضحة لذلك الفعل عبر مراحله وعصوره.

وعبر التاريخ، تأثرت الثقافات التى التقت ببعضها البعض، فاستعارت كل واحدة من الأخرى وأثرت فيها.

حدث هذا فى حالات: الجوار الجغرافى، والصدامات العسكرية التى أدت إلى انتصار شعب على آخر، وحدثت أيضًا عن طريق السفر والإقامة، إذ لعبت وسائل الاتصال الدور الرئيسى لانتقال الخصائص الثقافية من واحدة إلى أخرى، الذى كان بطيئًا ومحدودًا بسبب وسائل الاتصال القديمة.

وإن كانت الهجرة والتجارة والجوار الجغرافى أهم الوسائل السلمية فى عبور الثقافة من مكان لآخر، فالحروب والصدامات العسكرية والغزو من أهم الوسائل لتداخل الثقافات رغم الآلام والضحايا، وقد تطور مفهوم الغزو من احتلال وطن ما- مكانيًا- إلى الغزو الثقافى ومحاولة تعديل سلوك وأفكار من يتم غزوهم عن بعد، حدث هذا فى بعض حالات الاستعمار، حين حاول المحتل فرض ثقافتـه بالقوة على أصحاب الأرض.

لكن بعض الثقافات دخلت صراعًا مريرًا ولم ترضخ بسهولـة لهيمنة المستعمر الثقافية، ولم تخسر كل شيء، بل حافظت على أصالتها بعد زوال الاحتلال، ويبدأ صراع ثقافات من نوع جديد، يتخذ شكل صدام ثقافات.

إن علاقة الفرد بآخر وبالجماعة يشكل ديناميات اجتماعية تتشكل عبرها ثقافة الفرد، فيتجه أى مجتمع إلى استخدام وسائل اجتماعية عدة، فالأسرة والمدرسة والعرف والقانون ووسائل الاتصال والإعلام أدوات يستخدمها المجتمع، ليشكل ما يسميه "الثقافة القومية"، أو الوطنية، فإدراك الفرد المفاهيم والأفكار يمر عبر أدوات اجتماعية وتربوية تحرص كل الدول على مراقبتها وتفعيلها بأنماط خاصة ومحددة عبر التعليم والتدريب ووسائل الاتصال التقليدية والحديثة، إن بث ثقافة قبول الآخر أو بث ثقافة الكراهية ليست مطلقة، لأن كل مجتمع حريص على توجيه مفهوم قبول الآخر نحو مجتمعات بعينها وفرض ثقافة الكراهية ضد فئات اجتماعية معينة، فيتشكل نمط ثقافى غالب فى معظم الأحيان.

لا تشكل تلازمية القبول والكراهية تجاه الآخر علاقة متناقضة بقدر ما تكون إطارا دراميا تمر عبره المفاهيم والأفكار وتتشكل به سلوكيات الأفراد، وتبدو عملية الاتصال لكل منا شيئًا بديهيًا، فيندر أن ينتبه أحدنا إلى دلالتها وأهميتها الاجتماعية، وتكشف لنا التحليلات الواعية لهذه العملية التلقائية عن وجود أبعاد متباينة لعملية اجتماعية معقدة من حيث الأسلوب والمستوى الاتصالى، وكذا الأهداف المتوخاة من وراء هذه العملية.

وتأكد الدور الاجتماعى للثقافة بالتأثير القيمى والأخلاقى والسلوكى لحياة الفرد فى التصرفات والسلوك، إذ يعبر عن ثقافة الفرد ورؤيته لذاته وللأشياء من حوله، وبمقدار الوعى الثقافى لدى الفرد يزداد دوره فى الحياة ورسالته الإنسانية نحو مجتمعه والآخرين.

فللثقافة دور كبير فى التواصل الإنسانى على مر التاريخ، فابتكر الإنسان وطور آليات ثقافية متجددة ونامية، حقق من خلالها معرفة واسعة بالحياة، وتعزز هذا الدور من خلال الوسائل الحديثة التى توّجت بثورة الاتصالات والمعلومات، التى جعلت التواصل الإنسانى أكثر قدرة على اختراق الحواجز والجسور بين البشر، ما زاد معرفتهم بأنفسهم وبغيرهم.

لذا لا نتصور مجتمعًا إنسانيًا يقوم دون اتصال، فعن طريقه تتكون وتنمو المعايير والقيم والمضامين الثقافية وعمليات التعليم الاجتماعية والصراعات وغيرها.

وعلى عكس الكثير من الأدبيات التى تناولت العملية الاتصالية، والتى تربط التواصل الإنسانى باستخدام اللغة، فالفهم الأوسع لهذه العملية يدعونا إلى اختبار لغة الجسم والإيماءات وتعبيرات الوجه كأساليب اتصالية تستحق القدر نفسه من الاهتمام مثل اللغة.

يعد الاتصال الجماهيرى جزءًا من عملية الاتصال الإنسانى برمتها، وقد برز الاهتمام بالاتصال الجماهيرى كظاهرة وكتخصص علمى مع بدايات القرن العشرين، التى تميزت بكثرة عدد سكان المعمورة وتنوع مواقعهم واهتماماتهم وحاجاتهم للتواصل.

ويعرفه البعض بأنه: "بث رسالة واقعية أو خيالية موحدة إلى أعداد كبيرة من الناس يختلفون فيما بينهم من النواحى الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية، وينتشرون فى أماكن متفرقة".

وخرجت وسائل الإعلام الجماهيرية بالتدريج عن إطارها المحلى، لتصبح أداة اتصال وتواصل بين الأمم، لها دور مرسوم ومحدد فى إطار العلاقات الدولية، وعملية التبادل الإعلامى الدولى، ودخلت ضمن الأدوات والوسائل التى تحقق من خلالها مختلف الدول والمنظمات الدولية والإقليمية والمحلية بعضًا من سياساتها الخارجية.

وبالتدريج انتقلت المؤسسات الصحفية الدولية للعمل على نشر المبادئ والأفكار والمواقف والأخبار، عن طريق وسائل الإعلام الجماهيرية المختلفة بغرض الإقناع والتأثير فى الأفراد والجماعات داخل المجتمع، فعندما تخرج المؤسسات الإعلامية عن نطاق المحلية وتجتاز وسائلها الحدود الجغرافية والسياسية للدولة، لنقل تلك المبادئ والأفكار والمواقف والأخبار لمواطنى دول أخرى، لخلق نوع من الحوار الثقافى أو الهيمنة الثقافية، متجاوزة الحواجز اللغوية، تكتسب صفة الإعلام الدولى،  وهو جزء لا يتجزأ من السياسة الخارجية للدول المستقلة ذات السيادة، وإحدى الوسائل الفاعلة التى تحقق بعض أهداف السياسة الخارجية لكل دولة فى المجتمع الدولى، كما تخدم المصلحة الوطنية العليا للدولة، وفقًا للحجم والوزن والدور الذى تتمتع به فى المعادلات الدولية، وتأثيرها وتأثرها بالأحداث العالمية المستجدة كل يوم، خاصة عند نشوب أزمات سياسية أو اقتصادية أو عسكرية أو اضطرابات اجتماعية تطال تلك الدول، أو الدول المجاورة لها، أو تطال مناطق المصالح الحيوية للدول الكبرى فى أنحاء العالم، أو عند حدوث كوارث طبيعية وأوبئة، أو تهديدات للبيئة والحياة على كوكب الأرض.

وللإعلام الدولى دوافع متعددة، تنطلق من المصالح السياسية، والاقتصادية، والعسكرية، والاجتماعية، والثقافية، والإنسانية، بما يتفق والسياسة الخارجية للدولة، وتنبع من المصالح الوطنية العليا للدولة، وتعمل من خلال هذا المنظور على تعزيز أو تعكير التفاهم الدولى والحوار بين الأمم، الذى أدى إلى خلق تصور واضح للدول بعضها عن بعض، مفاده التحول من النظام القومى المغلق، إلى نظام ثقافى منفتح يقوّى هيمنة القوى أو يعزز التفاهم الدولى ويعمل على تطويره.

وكان لوسائل الإعلام الجماهيرية دور أساسى فى هذا التحول، بعد التطور الهائل فى تقنياتها خلال القرن الفائت، والتى ساعدت فى إحداث تغيير ثقافى واجتماعى واضح، رغم تضارب المصالح الاقتصادية والسياسية والصراعات الأيديولوجية المؤثرة فى القرار السياسى اللازم لأى تقارب أو حوار دولى.

وتزايد الإدراك لدور الثقافة فى تغيير اتجاهات الرأى العام المحلى والعالمى، عبر التأثير غير المباشر للفعل الثقافى فى حياة الشعوب، وتعزز دور الثقافة على المستوى العالمى فى العقود الأخيرة، بإنشاء عدد من المنظمات والمؤسسات الثقافية العالمية والإقليمية، ولعل المنظمة الدولية للتربية والعلوم والثقافة (يونسكو) تأتى فى مقدمتها.

وينمو الوعى الثقافى عبر سلسلة من المتغيرات، فإذا كان الذكاء بنموه يعنى القدرة على التعلم، فالتعلم هو التغير فى نمط الاستجابة، فيتبنى كل فرد منا أنماطًا من الاستجابة تسمى "العادات"، تبعًا لمراحل تعلمه المختلفة من أنواع شتى من المثيرات، فالسلوك الإنسانى مرتبط- بلا شك- بالعلاقة المزدوجة بين المثير والاستجابة، وتمر فى حياة الإنسان منا يوميًا الآلاف من المثيرات المحيطة فى بيئات مختلفة ومتنوعة، ينتقى الفرد- غير واعٍ- عددًا قليلًا منها، تبعًا لضروريات الحياة والعادات لدى كل فرد منا، فالأم تنتبه إلى صراخ طفلها أثناء نومها غير عابئة بالمثيرات المحيطة بها، وتتبعه لتلحظ المثيرات المحيطة به والتى يتأثر بها، وتتدخل لتقويم أثرها عليه، كما يعتنى الأفراد بالمثير الملحوظ مثل اقتراب رجل أسود اللون من مجموعة من البيض أو العكس.

ولا تتشكل القدرة على انتقاء المثير تبعًا لمسار حياة الأفراد العادية فقط، بل نتيجة لارتباطها بوسائل الاتصال الحديثة، فهى أكثر تأثيرًا من محتوى رسالة الاتصال، فالجلوس بالساعات أمام شاشات الكمبيوتر والتحديق لساعات فى أجهزة الموبايل الحديثة، من شأنه أن يخلق سلوكيات متوافقة مع تلك الوسيلة من الاتصال.

ولأننا ندرك الأشياء بشكل مشوه، فإذا ما وضعنا أيدينا فى ماء فاتر، ثم وضعناها فى آخر ذى درجة حرارة معتدلة، سنشعر بها أكثر برودة، وإذا ما وضعناه فى ماء مثلج فسنشعر بأنه أكثر دفئًا إذا ما وضعناها فى نفس الدرجات الحرارية المعتدلة، كما ألمح أصحاب مدرسة "الجشطلت" إلى أن الإنسان يدرك تبعًا لقوانين مثل التشابه والتناظر، لذا يعد إدراكنا الأشياء مشوهًا وغير دقيق، وإذا طالب "كانط" بالاتجاه الترنسنتدالى فى المعرفة- أى القائمة على الحواس- فهى الآن لا تعدو ذات يقين بعد أن تدخلت الأدوات المعملية فى القياس، ولأن الإنسان بطبيعته يملك عتبة من الإحساس لا يشعر بما أدناه ولا فوقها، فهو غير مدرك لكثير من المثيرات المهمة التى حوله، والتى لا يستطيع التنبه إليها، لذلك فإن تشكل المعرفة فى الحياة الإنسانية يعزى إلى الفرد وتوجهات المجتمع، وليس إلى عوامل موضوعية وحقيقية، ما جعل عالم النفس سيجموند فرويد يقول "كل إنسان يعيش وهمه الخاص بالحياة"، ولهذا فإن المعرفة المتشكلة لدى الإنسان مشوهة بطبيعة الحال، وكذلك هى طيعة للتشكل عبر مؤثرات بعينها.

ولأن الأفراد يتجهون طوعًا إلى الأكثر إثارة عبر وسائل الاتصال- كل فى مجاله الذى اختاره- فهم يسلكون سلوكًا انتحائيًا، فكما تلتف الفراشات حول الضوء، والنار يلتف سكان الأرض حول شاشات التليفزيون والكمبيوتر والموبايل، ورغم تعقيدات الحياة العصرية يتعامل الأفراد بسلوك بدائى معظم الوقت، فهذا السلوك الانتحائى من أبسط أنواع السلوك وأدماها، فعبره يدمن الإنسان رؤية الشاشات بعيدًا عن الطبيعة، ما يمثل انسحابًا اجتماعيًا، ولا يعدو التواصل عبر الشاشات تجربة شعورية عميقة، حتى إن اتسمت بالآنية والفعالية.

ويتشكل كل مجتمع حسب مجموعة من المفاهيم المشتركة، وقد أدت العولمة وتكنولوجيا الاتصالات والمعلومات إلى تكوين مجتمع عالمى، يتمتع بمعرفة مشتركة حول كل الموضوعات والإمكانيات.

ولقد كانت الموارد المادية والعمليات التحويلية الخاصة بها (أى الاقتصادية) هى الأساس الذى قام عليه النمو الاقتصادى، فيما كانت هناك أمور مثل الموسيقى والفن وامتزاج الثقافات (أى الثقافية) هى التى دفعت إلى تشاركية المجتمع بأسره لأنماط متشابهة من الثقافة.

لقد كانت المعرفة وستبقى محددًا أساسيًا لكينونة الإنسان ووجوده النفسى والاجتماعى، لكن تطور الحياة البشرية رفع اليوم من تأثير الفكرة، وجعلها من أقدر أدوات التغيير وأكثرها فاعلية. والنظر إلى التطور الجذرى الذى لحق تقنيات الاتصال فى زمننا الراهن، لا بد أن يخلص إلى أن البشرية مقبلة فى قادم الأيام والسنين على تحولات نوعية، ستشمل مختلف بنياتها وقواعد انتظامها، فضلًا على قيمها وأعرافها وأذواقها.

ولا بد لهذا التحول النوعى- الذى أذاب الحواجز المكانية وقرّب المسافات الجغرافية- أن يجعل من المعرفة نقطة ارتكاز لهذا الفضاء التواصلى الذى يتمدد وينفتح على الكرة الأرضية بكامل أقطارها.

وفى هذا السياق- الباحث عن ماهية وملامح هذا التحول الجديد، الذى ارتسم فى حياة الإنسان المعاصر- يرى كثير من الباحثين مثل بيتر دراكر، ورودولف ستيشوى وميشيل كارتيى، أن البشرية قد شهدت اليوم ميلاد نمط مجتمعى جديد هو "مجتمع المعرفة"، الذى يؤشر إلى لحظة انتقال وتحول جذريين.

ومنذ تحول المعرفة من علمية إلى تقنية، وتجسيد الفكرة فى الآلة، أخذت تبرز بوضوح تلك المقولة الديكارتية الناظرة إلى المعرفة بوصفها "قوة"، وهى ذات المقولة التى تكررت مع فرنسيس بيكون فى القرن السابع عشر، ثم لاحقًا مع نيتشة فى نهاية القرن التاسع عشر.

وفى القرن العشرين، ومع ظهور صناعة الحاسوب وتقنية الاتصال، أصبحت المعرفة موضوعًا للتداول على نحو أوسع وأكثر كثافة، ما جعل البعض يشير إلى وجود نقلة نوعية وليس مجرد فعل تراكمى، فالتحول التاريخى الذى يعتمل اليوم فى الواقع العالمى تحول جذرى ينقل البشرية إلى الانتظام وفق نمط مجتمعى جديد، بالقياس على سابقه من الأنماط، هو "مجتمع المعرفة".

والآن، فالثقافة من أخطر الوجوه الحضارية المتأثرة بالعولمة، ولا ينحصر الأمر فى الاقتصاديات المعولمة بل طال- وبسرعة شديدة ونسبية عالية- ثقافات الشعوب وقيمها وعاداتها، فتقوم العولمة فى الجانب الثقافى على انتشار المعلومات، وسهولة حركتها، وزيادة معدلات التشابه بين الجماعات والمجتمعات، أى على إيجاد ثقافة عالمية، وعولمة الاتصالات، عن طريق البث التليفزيونى عبر الأقمار الصناعية، وبصورة أكثر عمقًا خلال شبكة الإنترنت، التى تربط البشر بكل أنحاء المعمورة.

كما تعنى العولمة الثقافية بتوحيد القيم الاجتماعية، خاصة حول المرأة والأسرة، باختصار تركز العولمة الثقافية على مفهوم الشمولية، ثقافة بلا حدود، وآلة ذلك وسائل الإعلان والإعلام والاتصال والتقنيات، وتتجاوز العولمة الثقافية الحدود التى أقامتها الشعوب لتحمى كيان وجودها، وما له من خصائص تاريخية وقومية وسياسية ودينية، وثرواتها الطبيعية والبشرية، وتراثها الفكرى الثقافي، لتضمن لنفسها البقاء والاستمرار والقدرة على التنمية، ومن ثمّ الحصول على دور مؤثر فى المجتمع الدولى.

فهى تقوم على تسييد الثقافة الرأسمالية لتصبح الثقافة العليا، كما ترسم حدودًا أخرى مختلفة عن الحدود الوطنية، عبر شبكات الهيمنة العالمية على الاقتصاد والأذواق والثقافة. هذه الحدود هى حدود الفضاء (السبرنيتي) الذى هو بحق وطن جديد لا ينتمى لا إلى الجغرافيا ولا إلى التاريخ، هو وطن من دون حدود، أو ذاكرة، تبنيه شبكات الاتصال المعلوماتية الإلكترونية.

وغايات العولمة الثقافية التعدى الصريح والمباشر على القوميات الثقافية فى العالم، ما يتحقق بتقديم مضامين وصور تنتمى إلى ثقافات الأقوياء، فتخترق الحدود الجغرافية والسياسية والقانونية للشعوب الأضعف.

وتكمن آثارها فى صياغة ثقافة عالمية لها قيمها ومعاييرها هى ثقافة السوق.. وتجاوز "النخبوية"، وسلب الخصوصية، وقطع صلة الأجيال الجديدة بماضيها وتراثها، وتدمير الحضارات، وتأكيد النجاح الفردى، وتجميع الثروة، وتهميش الثقافة الوطنية، واحتكار الصناعة الثقافية، كذلك تسعى العولمة إلى تطبيق المعرفة من أجل المعرفة، وهو فى حقيقته مسخ للعملية المعرفية ومقاصدها، يختزلها فى المعنى الإجرائى، وبالنظر إلى مجمل نظرية دعاة مجتمع المعرفة نرى أن النوعية التى يعلى من شأنها هى المعرفة الأداتية المحصورة فى تحقيق الإنتاجية.

وهى معرفة نراها ذات مدلول نفعى قصير الرؤية مفرغ من كل بعد قيمى وأخلاقى. وهو ما نعتقد أنه المحدد الفعلى لطبيعة معرفة نمط "مجتمع المعرفة"، وهو مكمن إفلاس الثقافة فى الزمن المعاصر، إذ يُختزل فعل التفكير فى الإنتاج بمدلوله الاقتصادى، ما يؤكد أن هذا النمط المعرفى الذى يتم التبشير به اليوم، قائم على رؤية اختزالية لمعنى المعرفة ومعنى الإنسان على حد سواء، فى "الإنسان/ الجسد"، وتُختصر قصدية المعرفة فى معرفة أداتية تُنصت إلى مطالب الجسد الاستهلاكية فحسب.

يؤكد تنميط الثقافة فى إطار مجتمع المعرفة عبر سلسلة من الخطوات، تنتهى بسلوكيات متشابهة ومضامين متوافقة ومجتمع معرفى واحد، نظرية التشابه الثقافى لدى سكان الأرض، حيث تضلع المؤسسات العولمية بتنميط سلوك الأفراد الفاعلين عبر مواقع التواصل بمراقبة أدائهم وتوجهاتهم ورسم السياسات الاقتصادية والتجارية المعادلة لتلك التوجهات، فمن خلال رصد التوجهات العظمى للأفراد يمكن بناء استراتيجية التوافق أو التقويم، إن شاءت النخبة الاقتصادية والسياسية العولمية، بما تضمنه من مجتمع رجال الأعمال ومجالس إدارة الشركات المتعددة الجنسيات والحكومات المؤثرة والمتوافقة مع ضمير العولمة.